العلاقة الملتبسة.. لماذا غضب الإسلاميون من البرهان؟
12 فبراير 2025
جملة، إن لم تكن مفردة بعينها، أو ربما سياق التركيب في كلمة الفريق أول عبد الفتاح البرهان في ختام مشاورات القوى السياسية والمجتمعية حول رسم خارطة الطريق للحوار السوداني - السوداني، هو ما أثار حفيظة الإسلاميين حين أكّد أمام الملأ المؤتمِر بفندق غراند ببورتسودان على أن "المؤتمر الوطني" – والتحديد هاهنا مهم – لن تكون له فرصة للعودة إلى الحكم على "أشلاء السودانيين"، على الأقل في طور الانتقال التأسيسي المقررة مدته بأربع سنوات، بحسب الرؤية المقدمة من الكتلة الديمقراطية بقيادة جعفر الميرغني، إذ أفرغ البرهان كنانة نقده صوب حزب المؤتمر الوطني بوصفه (حاء) واحدة من الحاءات الثلاثة التي توزع الإسلاميون عبرها على مدار ثلاثة عقود وهم يأخذون بمقاود الدولة والمجتمع، ولم يُصب البرهان (حاء) الحركة بأي أذى بعد أن مضت (حاء) الحكومة بفعل رياح التغيير.
أحدثت كلمة البرهان ردود أفعال متباينة على صعيد تحالفات الحرب الظاهرة والمستترة، والتي يُنظر إليها ضمن علاقات تضمر من المواقف أكثر مما تعلن
لقد أوضح مبارك أردول، القيادي بالكتلة الديمقراطية، في سياق التسويغ والتسويق لخطاب البرهان، أن رئيس مجلس السيادة لم يشر بقريب أو بعيد إلى مكونات الإسلاميين، الذين لا يمكن أن يُختزلوا في تجربة المؤتمر الوطني، والتي سجنت شيخها ومارست معه أقسى ضروب العسف والتضييق، وأصدر الشعب في حقها حكمًا ناجزًا بفعل ثورته في كانون الأول/ديسمبر 2018. وذكر أردول، في إطار التدليل على أن أدوات الاستثناء لم تتجاوز سوى المؤتمر الوطني، ما أكده بحضور حزبي المؤتمر الشعبي والإصلاح الآن ومباركتهما للوثيقة المقترحة وآليات عملها. وهو استثناء مشروط ومحدود بفترة التأسيس، ويسري على جميع القوى السياسية، وإن كان في حالة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم" مرتبط بفك ارتباطها عن دعم الدعم السريع.
لقد أحدثت كلمة البرهان ردود أفعال متباينة على صعيد تحالفات الحرب الظاهرة والمستترة، والتي يُنظر إليها ضمن علاقات تضمر من المواقف أكثر مما تعلن، ما بين القوى الصاعدة ما بعد ثورة ديسمبر، والتي اختارت أن تتمترس في مواقع الحياد مع تبنٍّ كامل لرواية الدعم السريع حول من أطلق الرصاصة الأولى لا من الذي أشعل الحرب، وعلى أي رهان؟! وما رآه كثير من الفاعلين وأهل النظر تحالفًا مكتوبًا بالأحرف الأولى في إعلان أديس أبابا بين الدعم السريع و"تقدم"، ومكتومًا بفعل الحرج الذي تسببه الانتهاكات الواسعة لقوات الدعم السريع، في مقابل القوى الإسلامية التي انخرطت مساندة للجيش لتعيد تموضعها في قلب المعادلة، وتغسل بعض ما علق بصورتها في عالم الأذهان والأعيان جراء ما أصابها من خطاب ديسمبر.
الانشغال عن الأزمة بأعراضها
بدت مقاربة البرهان الاستباقية لمرحلة ما بعد الحرب – بحسب مراقبين – "فوقية" و"متعجلة"، لكونها أعادت إنتاج واقع السياسة بما يتناقض مع واقع الميدان، مما يُخشى أن يؤثر على الروح المعنوية للمقاتلين في صفوف الجيش من كتائب المستنفرين، فضلًا عن أن المقاربة نفسها – وفق محللين – لم تنفذ إلى عمق القضايا التأسيسية، وانشغلت عن جوهر الأزمات البنيوية بأعراضها وأمراضها.
وتجلت البواعث الإدراكية في غضبة الإسلاميين على نحو ظاهر، ليس في استمرار استثناء السلطة لهم من حقوق الممارسة السياسية في طور التأسيس المنتظر فحسب، وإنما في مساواتهم كذلك مع خصمهم اللدود في تنسيقية "تقدم"، برغم موقفهم المساند – كما يرون – لغازية الدعم السريع، ليس على سبيل السرديات والخطاب الإعلامي، وإنما بالرهان المكشوف على الدعم السريع ودعمه في مسار السياسة بوجه أخص. لقد هال الإسلاميين، بمكوناتهم المختلفة وكتائبهم القتالية، وهم يخطون مواقفهم بالدماء، أن يتمت مساواتهم مع من يرون أنهم منخرطون في حلف مع الدعم السريع، ولكنه حلف ماكر لعوب.
وفي أول رد فعل رسمي، أصدر حزب المؤتمر الوطني بيانًا مقتضبًا وغاضبًا في آن، حمل توقيع رئيسه المكلَّف أحمد هارون، ثمّن فيه عاليًا موقف البرهان وجهاده في حرب الكرامة، وألقى باللائمة عليه من هجومه المتواصل على الحزب "تزلفًا وتقربًا لقوى متهالكة وهشة"، بحسب وصفه، مؤكدًا أن حديثه عن العودة إلى الحكم على أشلاء السودانيين يكذبه التاريخ القريب في التغيير الذي حدث حين قررنا التنحي السلمي عن السلطة.
وأبان البيان أن المؤتمر الوطني حزب ضاربة جذوره في المجتمع السوداني، وحين تضع الحرب أوزارها، لن يستطيع أحد أن يصادر حريته وإرادته، وطالما الحديث عن فترة انتقالية تنتهي بانتخابات حرة، فمرحبًا بصناديق الاقتراع، وحينها لكل حادث حديث. وفي المقابل، بدا المهندس إبراهيم محمود، في مقابلة إعلامية، مستقلًا بموقفه عما أعلنه هارون، وغاضبًا منه أكثر من البرهان نفسه، محملًا إياه مسؤولية ما حدث في السودان من فوضى.
مواجهة التحدي
وعلى سياق موصول بحديث البرهان وما أثاره من ردود أفعال، دعا الصحفي الإسلامي عبد الماجد عبد الحميد قيادة التيار الإسلامي السوداني للخروج من منطقة الراحة، ومواجهة التحديات الوجودية التي تستهدف الإسلاميين وتهدف لاقتلاعهم ودفنهم تحت الأرض. وقال عبد الماجد إن التحدي الحقيقي الذي يواجه الإسلاميين هو الفريق البرهان نفسه، الذي درج بوضوح على شتم الإسلاميين والعمل على إبعادهم بالكلية عن المشهد، موضحًا أن من حق البرهان أن يحكم السودان، لكن ليس من حقه أن يسعى لتأسيس حاضنة سياسية وفق رؤية وعلاقات ونصائح المستشارين المحيطين به، مشددًا على أن هذا المسعى لا يجب أن يمر عبر التحريض على الإسلاميين وتقليم أظافرهم والتقليل من تأثيرهم غير المنكور على مجريات الأحداث.
واختتم دعوته بضرورة تقديم وجوه جديدة من شباب التيار الذين أفرزتهم وجمرتهم المعارك، وجوه بأعمار الثلاثين والأربعين من السنوات، آن لهم أن يتقدموا – كما قال – وآن للقيادات الحالية أن تستريح وتكمل ما تبقى من جدل وخلافات حول اللوائح والإجراءات التنظيمية والشورية الباردة، والتي ما زادت صف الإسلاميين إلا ضعفًا وتفتتًا.
الأمين السابق للفكر بالمؤتمر الشعبي: الجيش، في رؤية الترابي النظرية للدولة الإسلامية، لا يكون قائمًا معزولًا عن المجتمع، إذ ليس من الإسلام في شيء أن تقوم فئة من دون المجتمع يُدفع لها المال لتقاتل نيابة عنه، وإنما الجهاد هو دفع المجتمع المؤمن بنفسه وماله
جذور الانتباه
ويرى الدكتور محمد فقيري، الأمين السابق للفكر بالمؤتمر الشعبي، أن انتباهة الحركة الإسلامية، بحسب إفادة المحبوب عبد السلام، أتت عندما وجد الدكتور الترابي نفسه معتقلًا إثر انقلاب النميري في العام 1969م، قبل أن يُعتقل رئيس الوزراء نفسه، وبدا لهم منذئذٍ ضرورة تأمين حركتهم كي لا تؤتى من قبل شوكة الجيش.
ويعتقد فقيري أن فترة مشاركة النميري سلطته في أخريات عهده قد عظَّمت مكاسب الحركة ويسَّرت لها تجنيد آلاف الشباب والطلاب والمرأة. بل إن تبنِّي النميري لشعارات تطبيق الشريعة وما أعقب ذلك من تطبيق للعقوبات جعل الحركة تنتبه لخطورة السلطة نفسها وشديد وقعها على الاجتماع السياسي في السودان، وقد كانت من قبل تلامس الأمر في مجرد النظر.
يقول فقيري إن الجيش، في رؤية الترابي النظرية للدولة الإسلامية، لا يكون قائمًا معزولًا عن المجتمع، إذ ليس من الإسلام في شيء أن تقوم فئة من دون المجتمع يُدفع لها المال لتقاتل نيابة عنه، وإنما الجهاد هو دفع المجتمع المؤمن بنفسه وماله. وفق هذا التصور، فإن المؤسسة العسكرية، برسم المنظور الغربي، تكرِّس لثنائيات على شاكلة مدني وعسكري، وتقلل من إمكانية نهوض المجتمع حال امتياز البعض بمهام ومقام لا يكون لغيرهم، شأنهم في ذلك شأن النخبة في كل وجوه الحياة، ممن تستأثر عن العامة بالاختصاص وتجد في ذلك امتيازًا لها.
وعند مجيء الإنقاذ في 1989م، كانت الساحة السياسية حينها شديدة الاضطراب، لأن الشريعة الإسلامية أثارت جدلًا لم ينقطع بين التيارات السياسية. كذلك، فقد تصاعد نفوذ الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق مع تحالف مجموعات سياسية مقدَّرة، لينتهي الأمر بمذكرة الجيش الشهيرة. وقد وجدت الحركة الإسلامية نفسها، بحسب فقيري، محاصرة من كل القوى السياسية، والحركة الشعبية تقف على النقيض وتحمل سلاحًا، فانتهت بتدبيرها لانقلاب 1989م.
ويحيل فقيري مدى تأثير الحركة على الجيش إلى ما ورد في إفادة الدكتور الترابي لبرنامج "شاهد على العصر"، حيث ذكر أن حضور الإسلاميين في الجيش لم يكن كبيرًا كما يتصور البعض، إذ لم يتجاوز عدد الضباط أصحاب الولاء للحركة عشرين ضابطًا، غير أن التأثير الكبير على الجيش أتى من تلقاء تأثير الحركة في المجتمع، مما خلق وجدانًا عامًا ينعطف لشعارات الدين أكثر منه ولاءً تنظيميًّا مباشرًا.
وقد جاء التحالف مع الجيش رغم تخوف الترابي من ثنائية العسكري والمدني، كما ذكر الدكتور الطيب زين العابدين، واحتمالات تطور الصراع إلى التشظي إذا ذهب الإسلاميون في طريق تثوير المجتمع ضد السلطة القائمة. وقد آثر الترابي أن يجري جراحات عميقة في بنية الدولة عبر تدرج إصلاحي يقيها من أعراض الأزمات المتوارثة، كما حدث مع تطبيق فكرة الحكم اللامركزي، وليقطع الطريق أمام تمدد تحالف الحركة الشعبية بقيادة قرنق، الذي زاد وتوسع نطاقه بعد سقوط نظام جعفر نميري، وهو أمر يراه الإسلاميون مخلب قط للقوى الكارهة للمشروع الإسلامي.
ويستطرد أمين الفكر السابق بالمؤتمر الشعبي: إن الدكتور الترابي، رحمه الله، في العام 1999 خرج ناعيًا تحالفه مع العسكر، قائلًا بأن عصبية هؤلاء للمؤسسة العسكرية أَطغى من أي ولاء آخر، مفضلًا السير مع الجماهير مهما كان طول الطريق. وبقي كثير من الإسلاميين في الدولة، لكنهم، بحسب ظن فقيري، تحولوا إلى مجرد موظفين فاقدين لجوهر الفكرة التي نادوا بها، وهي إقامة نظام سياسي مرجعيته الإسلام، لكنهم أدركوا متأخرًا أن "تسلط" البشير سيوردهم المهالك، فقاد البعض حملة لأجل التغيير، لكنها اصطدمت بالبنية الأمنية العسكرية القابضة، فقد أشار الدكتور أمين حسن إلى أن الأمن كان يراقب حتى حزب المؤتمر الوطني، المفروض أنه حزب السلطة نفسها.
ويعتقد الدكتور فقيري أن وقوف الإسلاميين الآن في صف القوات المسلحة في قتالها للدعم السريع يمكن أن يُفهم في الإطار العام كوقوف ضد تشظي الدولة السودانية، وذلك بتغليب بنيات قبلية وعشائرية تؤجج الصراع الأهلي وتأتي على كامل الاجتماع السياسي، لكن هناك أسبابًا أخرى تشد الإسلاميين إلى رحم القوات المسلحة.
الإسلاميون - والقول ما زال لفقيري - يتميزون بانضباط تنظيمي عالٍ جدًّا، وهم في ذلك إنما ينهلون من إرث قديم وفق نظام هرمي، وهناك مكاتب أمنية وعمل سري، ما يجعلهم أقرب لروح الانضباط العسكري. أيضًا، في ظن الكثير من الإسلاميين، أن ولاء ضباط الجيش ينعقد للحركة الإسلامية بحكم المعايشة والعمل جنبًا إلى جنب ثلاثين عامًا، كانتها الإنقاذ. كما قد يتوهم البعض منهم أن مقاربة السلطة إنما تكون بالتحالف من جديد مع المؤسسة، وهم في ذلك يستدعون التاريخ القريب والبعيد غير مدركين للمتغيرات، ولعل "سجن التاريخ" هو من أخطر ما تجابهه الحركات الاجتماعية، إذ تتعزى بالماضي ونجاحاته عن ملاحقة التحديات، ناسين أن التنظيم الإسلامي لن يعود كما كان في 1989، ولعل كثرة المنابر التي يتحدث عبرها الإسلاميون تشي بأنهم لم يعودوا على قلب رجل واحد كما كان الحال قديمًا، فهم أولى بالحوار بينهم عن محاورة الآخرين ابتداءً.
أوهام الوصاية
ويرى صديق محمد عثمان، القيادي الإسلامي، أن الاشتراطات التي تُمارَس على الإسلاميين والقائمة على أوهام الوصاية والصوابية الكذوبة، تعتبر في أدنى تقدير غير ذات فحوى، ولا تسندها الخبرة السودانية. فحزب الأمة، الذي سلّم السلطة للفريق إبراهيم عبود في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1958، عاد مستأنفًا لمزاولة نشاطه السياسي، والحزب الشيوعي السوداني، الذي استولى على السلطة بالقوة تارة في 25 أيار/مايو 1969، ثم في انقلابه عليها من داخلها في 19 تموز/يوليو 1971، عاد في نيسان/أبريل 1985، وجلس مرة أخرى كتفًا بكتف مع أعضاء الهيئة التشريعية التي خرج منها في حادثة طرده من البرلمان في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1965. والحزب الاتحادي الديمقراطي – كما قال – موّل محاولة انقلاب البعثيين على الإنقاذ، ولكنه عاد وشارك في الحياة السياسية. ومع ذلك، يُراد للإسلاميين فقط أن يُحجبوا ويُمنعوا من ممارسة حقهم الطبيعي.
ويستطرد صديق قائلًا: إن قيادات الجيش والأجهزة الأمنية كوّنت ودرّبت وسلّحت "الجنجويد" ولم تُحاسب على هذا الخلل، وها هي تحاول أن تخلع خطيئتها التاريخية وتُلقيها على ظهر السياسيين. ويعتقد القيادي الإسلامي أن الصراع الحالي هو منظومة حروب داخل حرب، كل واحد يريد أن يحقق منها شيئًا؛ فمنهم من يريد أن يقصي بها خصومه السياسيين، ومنهم من يريد أن يقصي خصومه الإثنيين، ومنهم من يريد الحفاظ على مصالحه المادية المباشرة. وأن الحرب الحقيقية كان الهدف منها استيلاء الدعم السريع على السلطة، مثلما فعل حزب الأمة والحزب الشيوعي والحركة الإسلامية، ومثلما حاول الحزب الاتحادي وحزب البعث، وانتهت أعمالهم جميعًا من حيث بقوا واستمروا.
صديق محمد عثمان: استباق نهاية الحرب بإعلانات لا تمت للعقل والحكمة بصلة، إنما هو تمديد لأمد الحرب و"تسلط" لا تسنده حقائق الواقع، فليس هناك منتصر عسكريًا – كما قال – ليملي على المهزوم شروط أوروبا على ألمانيا أو شروط أمريكا على اليابان
ويشدد صديق على أن استباق نهاية الحرب بإعلانات لا تمت للعقل والحكمة بصلة، إنما هو تمديد لأمد الحرب و"تسلط" لا تسنده حقائق الواقع، فليس هناك منتصر عسكريًا – كما قال – ليملي على المهزوم شروط أوروبا على ألمانيا أو شروط أمريكا على اليابان. فالحرب الأهلية الراهنة هي معركة خسر فيها السودانيون رجالًا وشبابًا كالأزاهر، وتبقى كثير من الانتهازيين الذين يصفقون لقرارات مصادرة الحرية والحياة السوية. هؤلاء لم يحاربوا – كما قال صديق – بل حارب الرجال ودعمهم إخوانهم الرجال من أجل الكرامة والحرية للجميع.
توقيت خاطئ
من جهة أخرى، يرى الدكتور الفاتح الحسن، المحلل السياسي والعسكري، أن خطاب البرهان أتى في توقيت خاطئ وشتّت الانتباه وصرف الأذهان عن المعركة القائمة، التي تسعى بالأساس إلى التحرير الشامل وعودة النازحين واللاجئين إلى وطنهم، وتأمين القرى والمدن والمناطق، واستعادة الخدمات، واستئناف وجوه النشاط المدني والحيوي، وهي أمور متصلة بإدارة المعارك وبسط الأمن، الذي يشرف عليه الجيش ويتطلب إجراءات مختلفة.
ويعتقد الفاتح أن الخطاب أثّر على حالة الاصطفاف الوطني القائم على رهان الحسم العسكري الشامل، وحمله إلى مرحلة أخرى دون أن تنقضي المرحلة الأولى. وأن مرحلة الحوار الوطني، التي تأتي في أعقاب التحرير، لا يمكن أن تُحصر في مجموعة نخبوية محدودة ليس لهم سهم وافر في المعركة الوجودية. وامتدح الفاتح قضية توطين الحوار بالداخل، بعيدًا عن تدخل الأجندة الخارجية، بعد أن جرب السودانيون وصفاتها الكارثية وما جرّته من انفصال وأزمات وحروب. ذاكرًا ومذكرًا بأن أطراف الوثيقة الدستورية لم يتبقَّ منها إلا الجيش، بعد أن تمرد الطرف العسكري المساند، وشكّلت أغلب القوى المدنية جناحًا سياسيًا له. ومع ذلك، لم يعتبر البرهان من دروس التاريخ القريب، حسبما قال.
د. الفاتح الحسن: القوات المسلحة تحتاج في مرحلتها الراهنة إلى أن تستكمل معركة التحرير، واستعادة العاصمة والمؤسسات السيادية، وعودة رئيس مجلس السيادة إلى عاصمة بلاده، قبل الحديث عن المسار السياسي
ويشدد الفاتح على أن الإسلاميين لم يقاتلوا مع الجيش بفقه الغنيمة، وإنما سعوا إلى حماية وجود الدولة، التي تعرضت لهجوم غير مسبوق. ويعتقد الحسن أنهم قد ظُلموا من قائد الجيش، وهم يحمون ظهره ويقاتلون إلى جانبه في ظروف بالغة التعقيد، حين ساواهم مع تنسيقية تقدم، التي ظلت تجاهر بعدائها له ولمؤسسة الجيش، وتدعو إلى تفكيكه تحت مظان الإصلاح الأمني والعسكري.
ويعتقد الفاتح أن القوات المسلحة تحتاج في مرحلتها الراهنة إلى أن تستكمل معركة التحرير، واستعادة العاصمة والمؤسسات السيادية، وعودة رئيس مجلس السيادة إلى عاصمة بلاده، قبل الحديث عن المسار السياسي، الذي يحتاج إلى أن يتم تعهده بما يحفظ وحدة الاجتماع السياسي السوداني، لا ما يساهم في انقسامه. ويؤكد الفاتح على ضرورة أن تعتلي الأحزاب مواقعها في إدارة الدولة عبر صناديق الاقتراع، لا منطق المحاصصة السلطوية، وهو الضمانة الوحيدة لحفظ الاستقرار في المستقبل المنظور، كما قال.
مناورة البرهان
من جهة أخرى، يرى الدكتور كمال أحمد يوسف، المختص في التاريخ السياسي، أن الفريق البرهان، وبوصفه ضابطًا لا يملك توجهًا سياسيًا وفكريًا، يتقلّب بين المواقف؛ فتارة يتقرب من التيارات التقليدية ويخاطب شواغلها وشؤونها وشجونها، وتارة يهادن الإسلاميين بمهاجمة القوى المناوئة لهم، ثم قبل أن يجف صدى صوته يبعث برسائل إلى تنسيقية تقدم في ظل خلافها حول تشكيل حكومة منفى، ليجتذبهم إليه ويبعدهم عن الدعم السريع. وهو في ذلك – كما يقول كمال – يشبه إلى حد كبير الرئيس جعفر نميري.
ويرجح الخبير في التاريخ السياسي السوداني أن الطريقة التي ينتهجها البرهان يمكن أن تمنحه بعض الوقت على المدى المتوسط، لكنها لن تجدي معه على المدى البعيد، لأنه يحتاج إلى ماكينة تنفيذية تدير معه أجهزة الدولة وتظهره في صورة القائد المنتصر والمؤسس، وهو ما لا يتوفر حاليًا إلا عند الإسلاميين.
ولا يرى كمال أن البرهان سيمضي في معاداة الإسلاميين حد الصدام معهم، لأنه سيختبر صراعًا من نوع آخر أخطر عليه من الدعم السريع، صراع أدواته سياسية وتنظيمية بامتياز. ويمكن أن تبرز له نخبة من ضباط الجيش ليس بالضرورة أن تكون من بنية الإسلاميين التنظيمية، ولكنها يمكن أن تكون متعاطفة مع أدوارهم في نصرة الجيش.
ويشير كمال أحمد يوسف إلى أن رسائل البرهان مقصود بها الخارج أكثر من الداخل، الذي كسب عبره شعبية جامحة بسبب تقدمه العسكري، وهو ينظر إلى مرحلة ما بعد الحرب وتأسيس مجده السياسي برئاسة الجمهورية، ولو على غطاء شرعي صوري، إما انتخابات صورية أو تفويض مؤقت حتى يطمئن قبل الانسحاب من الساحة السياسية دون ملاحقة قضائية. ويمكن أن يتنازل لياسر العطا أو شمس الدين الكباشي كما فعل ابن عوف معه.
كمال أحمد يوسف: مصدر غضب الإسلاميين ليس في محتوى كلام البرهان، الذي سبق أن قاله في قاعدة حطاب العسكرية إبان الاتفاق الإطاري، بيد أن سبب غضبة الإسلاميين المضريّة هو توقيت حديث البرهان
ولا يرجح كمال يوسف أن يحرك الإسلاميون خلاياهم داخل الجيش، لأنه بات بالتجربة طريقًا غير عملي، كما يشير نموذج البشير الذي استفرد بالحكم وتخلص من الأجندة الإسلامية شيئًا فشيئًا. علاوة على أن اللعبة باتت مكشوفة، إذ من الأفضل للإسلاميين أن يتحالفوا مع البرهان بنوع من التعاون المستتر، وإبقاء شعرة التواصل والتواصي في الشأن العام، والاستمرار في لعبة التنافس وفق القواعد المرعية، دون الذهاب إلى خانة العداء الذي قد يجر إلى تدخل القوى الإقليمية عبر التخلي عن الدعم والإسناد.
ويعتقد كمال أن مصدر غضب الإسلاميين ليس في محتوى كلام البرهان، الذي سبق أن قاله في قاعدة حطاب العسكرية إبان الاتفاق الإطاري، بيد أن سبب غضبة الإسلاميين المضريّة هو توقيت حديث البرهان، حال اشتداد المعارك في الخرطوم وعلى تخوم الفاشر وتفاقم الأوضاع الأمنية. وهو حديث سابق لأوانه، ومن شأنه أن يؤثر على انخراط الإسلاميين في القتال أو يحبط روحهم المعنوية، وهم قوى شبابية معتبرة كانت لهم أدوار مشهودة في التقدم الذي حدث. وهو غضب شمل كتلة المناصرين للجيش، سيما بعد التقدم العسكري الواسع الذي كان للإسلاميين فيه سهم وافر لا يمكن إنكاره أو التنكر له، كما ذكر.
ويرى كمال أن البرهان كان يمكن أن يوجّه رسالة مبطنة باعتبار انتفاء أي استحقاقات سياسية وسلطوية بوصفها ثمنًا للمشاركة في القتال، وأنه ليس من طريق إلى الحكم سوى صناديق الاقتراع. كما يمكن له أن يمهد لمدّ حبل الوصال مع تقدم وإبعادهم عن الدعم السريع، بعد أن أعلنوا فك الارتباط مع القوى المساندة لتشكيل حكومة موازية. ويتوقع كمال أن تمضي الأمور مع ظهور مقدّر للإسلاميين على المستوى السياسي، مع وجودهم في الجهاز التنفيذي على مستوى الكوادر الوسيطة التي ليس لها ثقل سياسي يمكن أن يؤثر على البرهان ويجر عليه الاتهام بموالاة الإسلاميين.
ويرى الخبير في الشأن السياسي أن أولوية المرحلة الراهنة هي تكوين حكومة تنفيذية مستقلة، ومن بعدها إصدار مراسيم دستورية مؤقتة لتنظيم العلاقات السياسية في الفترة الانتقالية، ومن ثم تهيئة الأوضاع للانتخابات التشريعية باعتبارها مرحلة مؤقتة، أو حتى تعيين برلمان انتقالي، مع اعتماد البرهان رئيسًا مؤقتًا بحكم الأمر الواقع، مثل تجربة أحمد الشرع في سوريا.
مختتم
ومهما يكن من أمر، فإن الخطاب السياسي للفاعلين الرئيسيين في المشهد، بوصفه آلية للفعل وأداة للصراع، قد أكد فاعليته في حرب أبريل بنحو غير مسبوق، وبدا اللسان في خطاب المعركة ومعركة الخطاب أشد وقعًا من السنان. لكنه في حالة البرهان وحديثه الأخير، أعاد السياق مرة أخرى للعلاقة الملتبسة مع مكونات الإسلاميين، وهي علاقة من شأنها أن تلقي بظلال عميقة على مستقبل الدولة السودانية، إذا أنجزت مقومات وجودها واستكملت دواعي شهودها.
الكلمات المفتاحية

جنوب السودان.. مأزق قطرة النفط وصراع السلطة الحاكمة
يقول باحث سياسي إن السودان، أحد ضامني اتفاق السلام في جنوب السودان، لم يعد قادرًا على لعب دور جديد؛ لأنه غارق في صراع مسلح

الحكومة الموازية.. توسع دائرة الرفض الإقليمي والدولي
اصطدمت فكرة الحكومة الموازية التي تنوي قوات الدعم السريع، إعلانها في مناطق سيطرتها بموجة واسعة من الرفض الإقليمي والدولي، وعد الأمر بأنه نواة لتقسيم السودان، فيمَا وقفت دول أخرى موقف الحياد.

صحيفة كولومبية تروي تفاصيل رحلات المرتزقة من أبوظبي إلى الفاشر
وصف جنود كولومبيون كانوا يشاركون كمرتزقة في حرب السودان، في صفوف الدعم السريع، النزاع الدائر بالجحيم الممتلئ بالطائرات المسيّرة وقذائف الهاون

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها
قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي
نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية
تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة
أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.