أسباب سقوط حكم الإسلاميين في السودان.. كتاب جديد يرصد وقائع سقوط الإنقاذ
2 مارس 2025
تُقرأ حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023م بوصفها نتاجًا حتميًّا لما جرى في خواتيم حكم الإنقاذ، الذي شهد صعود الدعم السريع من نطاقات الهامش إلى صدارة التأثير، ضمن تحولات الاقتصاد السياسي للدولة في أعقاب انفصال الجنوب، من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط إلى اكتشاف الذهب في دارفور، ليغدو الأخير المصدر الأول للعملة الصعبة منذ العام 2012م، مشكّلًا 40% من صادرات السودان، وفق سياسات قلّصت من دخل الفرد، وضاعفت التضخم، وأسهمت في خلق أكبر ضائقة اقتصادية، وصنعت تأثيرات اجتماعية على نطاق أوسع مما جرى في أيلول/سبتمبر 2013م.
يقفز الكاتب عبد الرحيم عمر محيي الدين في كتابه "أسباب سقوط حكم الإسلاميين في السودان"، إلى رصد المواقف السياسية لقيادات الصف الأول في الحاءات الثلاث: حكومة، وحزب، وحركة
لم يأتِ عام 2017م حتى أصبح قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو أهم فاعل سياسي وعسكري واقتصادي في فضاء دارفور، بعد أن ألحق هزيمة قاسية بمنافسه الشيخ موسى هلال، وحمله مكلبًا في الأصفاد، عطفًا على ما أنجزه من قضاء مبرم على الحركات المسلحة في معارك فنقوق وقوز دنقو، واستيلائه على مناجم الذهب في جبل عامر، ليتم تكريسه كأهم حاكم عسكري في دارفور بموجب الوقائع، بعد أن قُننت قواته رسميًّا بقرار تشريعي أصدره البرلمان على كره من المؤسسة العسكرية ورفض واسع من القيادات الإسلامية في الحزب والحكومة.
مظان التنافس ومفاعيل الصراع
على أهمية مفاعيل الاقتصاد السياسي وتأثيراته الاجتماعية في إحداث تحولات حكم الإسلاميين نشوءًا وارتقاءً وضمورًا، يقفز الكاتب عبد الرحيم عمر محيي الدين في كتابه "أسباب سقوط حكم الإسلاميين في السودان"، إلى رصد المواقف السياسية لقيادات الصف الأول في الحاءات الثلاث: حكومة، وحزب، وحركة، ويقرأ التناقضات بين الذوات الفاعلة باعتبارها صراعًا على السلطة، مفردًا حيزًا معتبرًا لمناقشة مظان التنافس على الحكم بين أقطاب التنظيم؛ منذ حادثة الاعتداء على الدكتور الترابي في مطار أوتاوا عام 1992م، وظلالها على تراخي قبضته القيادية، التي جعلت البشير يؤخر إنفاذ خطة التحول إلى الحكم المدني والتخلي عن الشرعية الثورية، وما جرى لاحقًا من محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في إثيوبيا خواتيم حزيران/يونيو 1995م، من وراء ظهر الترابي والبشير، وتداعياتها في تأزيم الأوضاع داخليًّا وخارجيًّا، وتعميق الصراع بين مجموعة علي عثمان ونافع من جهة، والدكتور الترابي من جهة أخرى.
غير أن أهم حدث أدى إلى تقويض سلطة الترابي السياسية والتنظيمية، بحسب الكاتب، هو حادثة إشهار مذكرة العشرة في عام 1998م، التي فجّرت الصراع المكتوم وقادت إلى المفاصلة في العام 1999م، متتبعًا السياق الذي أنتجها وارتباطه بتكوين الترابي لأمانته العامة، ورفضه القاطع لتعيين الدكتور نافع أمينًا سياسيًّا بها، والدور المفصلي الذي لعبه كل من علي كرتي وسيد الخطيب في بلورة المطالب، واستقطاب العناصر لها بعد نقاش طويل مع الترابي في منزل علي كرتي، انتهى إلى أن يقول لهما: "لا تختبئوا في البيوت، وإن كان لكم رأي فأخرجوه في العلن".
ويسرد الكاتب كيف تحولت المذكرة من مطالب إصلاحية حاولت الاستنصار بشوكة السلطة، بدفع مباشر من شخصين هما كرتي والخطيب، إلى انضمام ثمانية أشخاص آخرين، تم فيهم مراعاة التمثيل الرمزي والفئوي والثقل الاجتماعي والتنظيمي، بحسب مشورة فاعل خفي لم يظهر في ثنايا المشهد، فبرز الشيخان إبراهيم أحمد عمر، وأحمد علي الإمام، والدكتور نافع علي نافع، والدكتور غازي صلاح الدين، والفريق بكري حسن صالح، والدكتور بهاء الدين حنفي، والسفير مطرف صديق، وعثمان خالد مضوي، وحامد تورين. وكيف تطورت الأحداث حتى انتهت إلى قرارات الرابع من رمضان، الموافق 17 كانون الأول/ديسمبر 1999م، بحل البرلمان، وإعلان حالة الطوارئ، وخروج الترابي لاحقًا بحزبه من حيز السلطان إلى ابتلاءات مدافعاته.

يلتقط الكاتب بذكاء المفارقة التي حملتها مذكرة العشرة، وقادت إلى ما أسماه تكريس حكم الفرد، وما جرى من رفض هائل لمذكرة "الألف أخ" في العام 2012م، ممن أشهروا بالأمس دعوى الإصلاح ونددوا باستئثار الترابي بالقرار الحزبي والتنظيمي، ورفضوا منطق التشاكس والتنافس بين القصر والمنشية، ولكنهم لم يحتملوا، بحسب الكاتب، ذات النداء بالإصلاح الشامل، ودرء الفساد والاستبداد، وإنهاء الحروب والأزمات، رغم اتساع قاعدته وبروز شواهده.
لينتقل الكاتب إلى مناقشة ما وسم العشرية الثانية للإنقاذ من صراع عنيف بين قيادات الصف الأول، الذي تمحور بين علي عثمان ومجذوب الخليفة، ثم بين علي عثمان ونافع علي نافع، ويغوص في كثير من الأقاصيص التي تبرز نشوء مجموعات بولاءات وإرادات مختلفة، إن لم تكن متناقضة، مع التشديد على إمساك الرئيس بكافة الخيوط، وتحول الأبنية التنظيمية من مكتب قيادي وأمانات ومجلس شورى إلى أطر جوفاء تتعقب رغبة الرئيس، وتقرأ ميوله ونوازعه.
أهم ما ورد في الكتاب، على ما تحشده أوراقه ذات الخمسمائة وعشر صفحات من حكايات تتفاوت أهميتها واحتمالات موثوقيتها، سيما أن بعضها يُسند إلى مجاهيل، مع تثبيت عبارة "والعهدة على الراوي"، هو الحديث عن انقلابات الإسلاميين، من اللواء صديق فضل إلى العميد ود إبراهيم، والإعداد المبكر لثورة كانون الأول/ديسمبر 2018م
ويشير الكاتب إلى علو الأصوات الإصلاحية، وخروج مجموعة غازي صلاح الدين وتكوينها لحزب "الإصلاح الآن"، مثلما خرجت من قبل مجموعة أمين بناني ومكي علي بلايل، وانتشار أنماط من الخلافات بين ذوات تنظيمية فاعلة، كما جرى في القضارف بين الوالي عبد الرحمن الخضر ورئيس المجلس التشريعي كرم الله عباس، وما حدث بين أسامة عبد الله وزير السدود ومكاوي محمد أحمد مدير الكهرباء، وما حدث بين عبد الله سيد أحمد وكيل وزارة الصحة ومحمد مندور المهدي مدير الإمدادات الطبية، والشواهد لا تقع على حصر.
أهم ما ورد في الكتاب، على ما تحشده أوراقه ذات الخمسمائة وعشر صفحات من حكايات تتفاوت أهميتها واحتمالات موثوقيتها، سيما أن بعضها يُسند إلى مجاهيل، مع تثبيت عبارة "والعهدة على الراوي"، هو الحديث عن انقلابات الإسلاميين، من اللواء صديق فضل إلى العميد ود إبراهيم، والإعداد المبكر لثورة كانون الأول/ديسمبر 2018م، ومقابلة الكاتب مع صلاح قوش، مدير المخابرات السابق، واستجلاء أدواره ومحطاته في إدارة المخابرات ومستشارية الأمن، واتهامه بالمشاركة في انقلاب ود إبراهيم، وعودته مرة أخرى.
دور قوش في التغيير بين التهويل والتهوين
لقد اختلفت الروايات حول دور صلاح قوش في التغيير، فبينما ينسبه قوش نفسه إلى قرار مباشر من قادة الجيش في اللجنة الأمنية، ويعني بذلك الفريق ابن عوف والفريق كمال عبد المعروف، يرى كل من الفريق أمن محمد عطا المولى، مدير المخابرات الأسبق، واللواء أمن إبراهيم الخواض، مدير مكتب علي عثمان محمد طه، أن لقوش دورًا مفصليًا في التغيير تخطيطًا وتنفيذًا.
ويذكر الكاتب أن تنبيهات كثيرة حذرت البشير من انقلاب يديره قوش، كما نقل الرئيس السابق إدريس ديبي للبشير معلومات استقاها من دولة إسرائيل، وهي ذات المعلومة التي أكدها له القيادي د. نافع علي نافع، مؤكدًا للبشير أن لقوش انقلابًا سينفذه في آذار/مارس 2019م، إلا أن البشير حمل تحذيرات نافع على العداوة المتأصلة بينه وبين قوش.
ويعتقد الفريق محمد عطا المولى، مدير جهاز المخابرات الأسبق، أن لقوش طموحًا قديمًا لبلوغ منصب الرجل الأول، سيما بعد صدور قرار المحكمة الجنائية، حيث بدأ في تسويق نفسه للمعارضة الشمالية، وعقد علاقات خاصة مع الحركة الشعبية، ومع وزير الخارجية دينق ألور، الذي قام بدوره بتقديمه للسفير الأمريكي بوصفه البديل المناسب للبشير. ويذكر محمد عطا أن قوش خرج من الجهاز بمؤامرة من مجموعة طه عثمان، وأُسندت إليه إدارة مستشارية الأمن، إلا أنه لم يكتفِ بنطاق مهامها، وسعى من خلالها لتنفيذ طموحه السلطوي، فتم إعفاؤه منها بسبب تصريح نائبه حسب الله عمر، حين قال إن الشريعة الإسلامية إذا تعارضت مع الوحدة الوطنية يمكن تجاوزها.
وأكد عطا المولى أن قوش لم يركن إلى مصيره، وشارك في انقلاب ود إبراهيم، رغم نفي ود إبراهيم لذلك. ويقطع مدير المخابرات الأسبق بشكل جازم أن قوش هو العقل المدبر والمنفذ لانقلاب ابن عوف في 11 نيسان/أبريل 2019، ذاكرًا أن قوش سافر إلى أديس أبابا واجتمع مع رموز المعارضة بحضور مو إبراهيم وعبدالله حمدوك بغرض تسويق نفسه، إلا أن المعارضة رفضته. وشدد على أن دور قوش في توفير السياق الملائم للتغيير، وفتح ممرات آمنة للثوار ليدخلوا إلى حرم القيادة العامة، ثم إجراؤه لحوار مع قادة المعارضة، وتحديدًا كتلة نداء السودان، وفرض خيار إقالة البشير، انتهى إلى صفر كبير.
رغم أن تشكيل المجلس العسكري، وإخراج ابن عوف وعبد المعروف، وتقديم البرهان، جرى بتنسيق محكم بين قوش وحميدتي، وبمباركة الشيخ منصور بن زايد، إلا أن قوش، في خضم سعيه لتوطيد موقعه في المجلس العسكري الجديد، رتب لاجتماع مع السفير البريطاني والأمريكي بحضور حميدتي، إلا أن البرهان وياسر العطا شعرا بقلق من تقاربهما، فقررا إعفاءه، وتم تبليغ جلال الشيخ ليبلغه بذلك.
ويرى محمد عطا المولى أن قوش تعرض لخديعة استراتيجية، حين تم توظيفه في إنفاذ مخطط التغيير، الذي لم يكن ليتم لولا دوره المركزي، ليصبح هو نفسه أول ضحاياه. ويعتقد محمد عطا أن البرهان أتى من تلقاء ابن عوف، الذي وسّع اللجنة الأمنية، وأدخل فيها مجموعات من التصنيع الحربي وغيره، وأن كلام قوش عن أنه كان خيار التنظيم، بحسب ما ذكر عماد الدين حسين، مدير شركة سوداتل السابق ورئيس منظومة الأمن الشعبي، ليس صحيحًا.
في إفادة الفريق أول صلاح قوش للكاتب، التي اشترط فيها عدم إفشاء أسرار الدولة أو التنظيم، أوضح أنه استطاع أن يقنع الرئيس البشير بأن يستقيل من الحزب، وأن يعلن أنه لن يترشح لانتخابات 2020م
في إفادة الفريق أول صلاح قوش للكاتب، التي اشترط فيها عدم إفشاء أسرار الدولة أو التنظيم، أوضح أنه استطاع أن يقنع الرئيس البشير بأن يستقيل من الحزب، وأن يعلن أنه لن يترشح لانتخابات 2020م، وأن يصبح رئيسًا قوميًا يقف على مسافة واحدة من الأحزاب، وأن يقوم بتعيين رئيس وزراء قومي يُعدّ الساحة لانتخابات تعددية تُجرى في 2020م، وأن يشرك المعارضة بصورة فعلية في الحكم.
يقول قوش إن الرئيس وافق على كل اقتراحاته، وقام بتعيين ولاة عسكريين، والاتفاق على أن يكون عمر الدقير رئيس الوزراء حتى قيام الانتخابات. وتم إقناع صديق يوسف، عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي، الذي ذكر أن حزبه لن يوافق، فتم الاتفاق على أن يظل موقفهم حبيس الأنفس حتى تعبر البلاد منعرجها الخطير.
يؤكد قوش أن لقاء القصر الشهير كان سيشهد إعلان ما اتُّفق حوله بشأن استقالته من المؤتمر الوطني، وكان من المقرر أن يحضره الصادق المهدي، إلا أنه تغيب في آخر لحظة بسبب خوفه من أن يتنصل البشير عن التزاماته. وقد كان! فقد تأخر الخطاب عن موعده، وفشل الرئيس، كما قيل، في إقناع المكتب القيادي للمؤتمر الوطني بالاستقالة، بسبب أن وجوده في السلطة سيبقى غير دستوري.
ويعلق الكاتب بأن الرئيس، الذي كسر شروط الدستور أكثر من مرة ليستمر في السلطة، لم يشأ أن يجرب تجاوزه هذه المرة لمصلحة العمومية. هنا، توقع كثيرون أن يستقيل قوش عن موقعه بسبب نكوص الرئيس عن مصفوفة التغيير التي اتفق عليها معه، وأعلن على الملأ أن الرئيس سيستقيل من المؤتمر الوطني، ولكن قوش مضى في تنفيذ مخططه، كما يرى مراقبون، وهو إسقاط النظام من الداخل.
ويقول قوش إن مجموعة من القياديين في الحزب والحركة توصلوا إلى قناعة بضرورة ذهاب الرئيس، واجتمعوا بتاريخ 5 يناير 2019م، وهم نافع علي نافع، وأحمد إبراهيم الطاهر، وعلي عثمان، وأسامة عبد الله، والزبير أحمد الحسن، وأنه استطاع أن يبث في روعهم أن علي عثمان يمكن أن ينقل رغبتهم هذه إلى الرئيس.
وكما أحبط تحركات الإسلاميين، أحبط قوش، بحسب إفادته، مطالب من الإسلاميين بانقلاب يجريه كمال عبد المعروف، بحجة أنه سيحدث انقسامًا حادًا في المكونات الأمنية. كما أحبط قوش اتفاقًا بين ود إبراهيم وحميدتي لإجراء انقلاب لصالح الثوار، وأغرى حميدتي بتعيينه نائبًا لرئيس مجلس السيادة.
من المفارقات التي رصدها الكتاب أن طه عثمان الحسين، الذي يكنّ عداءً عميقًا لقوش، أخبر إبراهيم الخواض بأن نظام البشير قد انتهى، وعلى قوش أن يستلم السلطة وسيجد تأييدًا من الخارج
ومن الواضح أن إحباط محاولات التغيير، التي تداعت لها النخبة الإسلامية المدنية والعسكرية من قبل قوش، يظهر أن له خطة مغايرة، وهي التي كادت أن تؤتي أُكلها، لولا انقلاب الأمر رأسًا على عقب، بحسب استخلاص الكاتب. ويرجّح إبراهيم الخواض أن نقطة التحول المركزية في قرار اللجنة الأمنية بالإطاحة بالبشير لم تكن بسبب المشادة الكلامية التي جرت بين البشير وابن عوف وكمال عبد المعروف يوم العاشر من نيسان/أبريل 2019م، حين نقل مدير الشرطة الفريق الطيب بابكر للبشير بأن الجيش مناصر للثوار، وصدّ محاولة الشرطة لفضّ الاعتصام وقتل نحو 38 شرطيًا، مما جعل البشير يستدعي ابن عوف وعبد المعروف ويعنفهما بكلام شديد اللهجة، ويصفهما بالتقاعس والتواطؤ. وهي الحادثة التي يرى قوش أنها مثّلت انعطافة حقيقية نحو التغيير. يعتقد الخواض أن الحادثة، على أهميتها، لا تعدو أن تكون مجرد مناسبة ظرفية أقرت تنفيذ قرار التغيير المتفق عليه داخليًا وخارجيًا، مشيرًا إلى زيارة خارجية أجراها قوش وابن عوف إلى دولة إقليمية مهمة، سوّقا من خلالها مشروع التغيير.
من المفارقات التي رصدها الكتاب أن طه عثمان الحسين، الذي يكنّ عداءً عميقًا لقوش، أخبر إبراهيم الخواض بأن نظام البشير قد انتهى، وعلى قوش أن يستلم السلطة وسيجد تأييدًا من الخارج. وقد أكد إبراهيم الخواض أن قوش أراد استخدام الجيش لتنفيذ التغيير، مع الرهان على الاستئثار بثمرته النهائية رئيسًا للدولة، وأنه لم يكن يمانع من تعيين اللواء عبد الغفار الشريف نائبًا لمدير جهاز الأمن، رغم تاريخ العداوة بينهما، في مقابل تعيين جلال الشيخ مديرًا للجهاز، بعد أن يتخلص من شركائه في اللجنة الأمنية، ليجد رياح الأحداث قد حملته بعيدًا مع شريكيه ابن عوف وعبد المعروف في عاصمة اللجوء العربي التي أحسنت وفادتهم.
كيف صعد البرهان إلى صدارة المشهد؟
وبحسب إفادة الفريق هاشم عبد المطلب، رئيس الأركان السابق، فإن اعتلاء البرهان لصدارة المشهد أتى محمولًا بدفع من الفريق ابن عوف، الذي كان شريكه في الإشراف على تكوين الدعم السريع في العام 2013م، ويدلل على ذلك باجتماع شهير عقب التغيير، في الحادي عشر من نيسان/أبريل 2019، دعاهم إليه نائب رئيس المجلس العسكري الفريق كمال عبد المعروف، بحضوره والفريق محمد عثمان الحسين، رئيس الأركان الحالي، والفريق مصطفى محمد مصطفى، رئيس هيئة الاستخبارات، والفريق جلال الدين الشيخ، نائب مدير جهاز الأمن.
يقول الفريق هاشم إن الفريق كمال لم يكد يبتدئ الاجتماع حتى قاطعه جلال الشيخ، ذاكرًا أن الثوار لا يرغبون في استمراركم، يقصد (ابن عوف وعبد المعروف)، وقال: "إن الناس ترغب في البرهان هذا"، وهو ما أكده رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية، مشيرًا إلى أن سلاح المدرعات يشترط تعيين الفريق هاشم عبد المطلب في المجلس العسكري. بعد ذلك، انتقل الاجتماع إلى ابن عوف، وأعيد استعراض ذات المعلومات وتقديرات الموقف استنادًا إلى الرأي العام الرافض للجنة الأمنية، إلا أن الفريق أول ابن عوف لم يتفاجأ ولم يبدِ ممانعة في ترك المنصب، وكأن في الأمر طبخة ما، كما يؤكد الفريق هاشم.
يشير الفريق هاشم إلى ارتباط ابن عوف والبرهان بمشروع الدعم السريع، ويتهم ابن عوف بتصديقه للدعم السريع بـ 75,600 نمرة عسكرية، مقابل 24,400 للجيش، ليسهم في تضخيم عدد قوات الدعم السريع خصمًا على أفراد وجنود الجيش
يشير الفريق هاشم إلى ارتباط ابن عوف والبرهان بمشروع الدعم السريع، ويتهم ابن عوف بتصديقه للدعم السريع بـ 75,600 نمرة عسكرية، مقابل 24,400 للجيش، ليسهم في تضخيم عدد قوات الدعم السريع خصمًا على أفراد وجنود الجيش، وهو ما نقرأ آثاره في المعركة الحالية. ويعتقد الفريق هاشم أن ما جرى من إعفاءات للضباط في الأجهزة الأمنية والشرطية، فضلًا عن الجيش، يمثل أكبر دليل على حجم الانخراط في مشروع الدعم السريع، بدرجة إحالة أكثر من 1000 ضابط شرطة للتقاعد في كشف واحد دون توقيع رئيس مجلس السيادة. وعندما أبطلت المحكمة العليا القرار وأمرت بإرجاع المفصولين لمواقعهم، رفض البرهان تنفيذ القرار.
شهادات ومشاهدات
من المقابلات المهمة التي أجراها الكاتب، حوار أجراه مع الفريق ركن مهندس عيسى إدريس، الذي نقل جملة من مشاهداته وملاحظاته حول ما جرى من تغيير، ورصد التناقضات المركزية والثانوية في النواة التي أنتجت التغيير، وكيف استتب الأمر للبرهان في نهاية المطاف.
لاحظ الفريق عيسى أن ابن عوف كان يقرّب البرهان، وينتدبه لمهام رئيسة، متجاوزًا رئيس الأركان هاشم عبد المطلب، وأنه حين لفت انتباهه لهذا الأمر، قال له ابن عوف: "ستتبين لك الأمور لاحقًا". ويرجح الفريق عيسى وجود صلة وثيقة بين كرتي والبرهان منذ العام 2007م، ربما بسبب أواصر النطاق المناطقي، علمًا بأن من يديرون الشأن العسكري في التنظيم ينحدرون من ذات المناطق التي ينتسب إليها القادة الفاعلون في التغيير.

ويذهب الفريق عيسى إلى أن الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين اتصل به صباح يوم الحادي عشر من أبريل، مستفسرًا عن انقلاب منسوب للفريق كمال عبد المعروف، وأن الفريق عيسى أكد له بأن كمال لن يقوم بانقلاب على البشير، وأنه إن كان هناك انقلاب، فهو من تخطيط ابن عوف وصلاح قوش. ويذكر عيسى إدريس أن جلال الشيخ والفريق عمر زين العابدين ذهبا، بإيعاز من صلاح قوش، إلى ابن عوف وطالباه بإجراء التغيير، فقال لهم: "لن أفعل، وإن أردتم أن تنقلبوا على البشير، فليس لكم من سبيل سوى ربطي بالحبال"، في إشارة إلى أن الانقلاب على البشير لن يمر إلا بالانقلاب عليه. غير أن حادثة توبيخهما، كما يقول عيسى، هي التي أشعلت فتيل التغيير.
يشير الفريق عيسى إدريس إلى أن انقلاب رئيس الأركان، الفريق هاشم عبد المطلب، كان بإيعاز من أحمد الشايقي، مدير شركة زادنا السابق، الموصولة بالرئيس البشير، وأن علي كرتي ذهب لهاشم مرتين وحذّره من مغبة القيام بانقلاب في هذه الظروف، مؤكدًا له أن "أي انقلاب لا يمثلنا ولن يجد منا تأييدًا".
مشهد معقد
نلمح من إفادة الفريق عيسى إلى أن التغيير جرى من قادة عسكريين أقرب ولاءً للبشير، وأبعد في التصنيف من مكونات الإسلاميين داخل الجيش، حيث يقع ابن عوف والبرهان في المجموعة (ج)، وهي المجموعات الموالية غير المنتمية أو الملتزمة بالخط، وغير الملتزمة بالمنهج. ويؤكد عيسى أن اجتماعًا جرى في التصنيع الحربي، أُبعد منه الضباط الإسلاميون، بغرض حشد التأييد لترشيح البشير لانتخابات العام 2020م، وقد ذكر فيه الفريق ابن عوف أنهم سيقومون بانقلاب ليعيدوا الرئيس البشير إلى سدة الحكم، إذا أراد قادة المؤتمر الوطني أن يطيحوا بسلطة الرئيس.
بالعودة إلى إفادة قوش، فإن اجتماعًا عُقد بمزرعة أحمد إبراهيم الطاهر بحضور علي كرتي، قرروا فيه أن يحدث التغيير بقيادة البرهان وليس عوض ابن عوف وصلاح قوش. ويسترسل قوش أنه حين قابل الصادق المهدي ومجموعة نداء السودان، نقل إلى البشير ما دار معهم، فغضب غضبًا شديدًا، وقال لقوش: "اذهب وفض الاعتصام الآن". فقال قوش: "سنفضه بصورة سلمية ولو استمر ثلاثة أشهر"، لكن الرئيس أصر على فضه عاجلًا، ثم تجهز وقال إنه سيفصل ابن عوف وكمال عبد المعروف ويعيّن البرهان رئيسًا للأركان.
ويقول قوش إن البرهان كان خيار مجموعة نهر النيل، وإن أول من طرح اسمه هو الزبير أحمد الحسن، الذي قضى نحبه مسجونًا في محابسه. ومن عجب أن البرهان كان خيارًا للإسلاميين المدنيين، ثم غدا خيارًا مناسبًا لخلافة ابن عوف من مجموعة ابن عوف، وكان أحد الخيارات المطروحة من البشير لقيادة الأركان. حيث ذكر ابن عوف لسناء حمد أن الرئيس ذكر في خطاب جماهيري أنه إذا تنازل عن السلطة، فسيسلمها للجيش (الكاكي)، فاستفسر ابن عوف الرئيس: "ماذا تعني؟"، فرد: "البرهان". نفس البرهان تم اشتراطه من حميدتي، كما ورد في روايات كثيرة، ليديرا معًا عهد الانتقال.
من قام بفض الاعتصام؟
ومن أهم ما ورد في إفادة الفريق هاشم، ما ذكره بخصوص فض الاعتصام، وتأكيده في اجتماع بمكتب البرهان، تداعى له قادة الأجهزة الأمنية بخصوص فض اعتصام كولومبيا، أنه ذكر لمدير عام الشرطة الفريق عادل أن حفظ الأمن من اختصاصات الشرطة، وأن تدخل الجيش يأتي عندما تعجز الشرطة، بإشراف القضاء وبصورة تدريجية، وأنه يرى ألا تتدخل قوات الجيش أو الأمن أو الدعم السريع.
وقال هاشم إن الفريق عادل أكد على جاهزية قواته، البالغة 5000 شرطي، مدربين على فض المظاهرات بصورة مدنية. وكان ذلك في حضور عبد الرحيم دقلو، الذي لم يُبدِ رفضًا أو تأييدًا. وما إن التأم الاجتماع بقيادة البرهان حتى رددنا ذات الكلام، وذكر الفريق عادل أنه لا يحتاج سوى إلى قوة حماية وتأمين لجنوده، حتى يردوا غائلة أي هجوم مسلح، حيث حدث من قبل إطلاق رصاص من جهة كبري الحديد.
يقول الفريق هاشم إنه أدلى بشهادته للمحامي نبيل أديب، وحين سأله: "هل تجزم بأن حميدتي هو من أصدر التعليمات لقواته بفض الاعتصام؟"، قلت له: "لا أجزم، ولكني أستطيع بصفتي قائدًا عسكريًا أن أقول إن قرائن الأحوال تؤكد أن قوات الدعم السريع تحركت من خمسة معسكرات
يقول هاشم إن حميدتي اقترح أن تكون قوات الحماية من الدعم السريع، وطالب بمنحهم زي شرطة، إلا أن مدير الشرطة رفض ذلك. وينقل الفريق هاشم عن اللواء بحر أنهم حضروا اجتماعًا في القصر الجمهوري، تم تغييب الفريق هاشم عنه عمدًا، وأن حميدتي حضر متأبطًا مظروفًا وسلمه إلى عثمان عمليات، قائلًا: "هذه هي الخطة". وأكد الفريق هاشم أن فض الاعتصام لم تشترك فيه الشرطة مطلقًا، وأن من ارتدى زيها كان من جنود الدعم السريع.
يقول الفريق هاشم إنه أدلى بشهادته للمحامي نبيل أديب، وحين سأله: "هل تجزم بأن حميدتي هو من أصدر التعليمات لقواته بفض الاعتصام؟"، قلت له: "لا أجزم، ولكني أستطيع بصفتي قائدًا عسكريًا أن أقول إن قرائن الأحوال تؤكد أن قوات الدعم السريع تحركت من خمسة معسكرات (طيبة، والجيلي، وحطاب، وأم درمان)، وعلى رأس كل منها عقيد أو مقدم، ووصلوا إلى منطقة الاعتصام في زمن واحد، فهذا يعني أنهم يصدرون عن خطة وتقدير موقف وسلسلة أوامر موصولة إلى عثمان عمليات، ثم إلى عبد الرحيم دقلو، وصولًا إلى حميدتي".
يذكر الفريق هاشم أن محاولات الزج باللواء الصادق السيد في الأمر مختلقة ولا تقوم على ساق، مؤكدًا أن حميدتي قد اعترف أمامه بفض الاعتصام، لكنه ندم على ذلك. وهذا بعد ساعة من فض الاعتصام، يقول هاشم: "والنيران لم تزل مشتعلة في الخيام. جئت باكرًا إلى مكتب البرهان، فوجدت معه حميدتي، وسألتهما عما حدث، فانبرى حميدتي قائلًا إن قوة من الدعم السريع فضت الاعتصام، لكن لا نعرف من الذي أتى بها". وهذا ما أكده البرهان.
لاحقًا، حين صرحت بأن الجيش لم يطلق طلقة واحدة في الاعتصام، غضب حميدتي غضبًا شديدًا، وهذا ما نقله لي عبد الرحيم دقلو، بل إن البرهان اتصل بي قائلًا: "إن حميدتي غاضب جدًا من تصريحك، لكن لا تكترث له".
ملاحظات نقدية على هامش التوثيق
يشتبك الكتاب، الصادر في مفتتح كانون الثاني/يناير من العام 2025م عن دار الكاف للنشر والترجمة، لمؤلفه الدكتور عبد الرحيم عمر محي الدين، مع راهن المعركة ورهاناتها ضمن السردية المخدومة للحرب، التي رأى فيها قطاع محدود في تنسيقية "تقدم" وقوات الدعم السريع أن من أشعلها هم عناصر الإسلاميين في الجيش، الذين يمتثلون للشيخ علي كرتي ويأتمرون بإمرته.
يوفر الكاتب، الذي نشط منذ زمان باكر في صفوف الحركة الإسلامية، وبلغ مساعد أمين العلاقات الخارجية لحزبها الحاكم من 2000 - 2001م، واعتُقل مدة عامين في عهد ما بعد الانتقال قبل أن يُبرَّأ في نيسان/أبريل 2022م، مادة كثيفة يمكن الاستناد إليها في تسويغ السردية المخدومة، لجهة أنها تكشف التداخل بين الشأن العسكري والمدني في حقبة حكم الإسلاميين.
ورغم ما ورد من إشارات حول حدوث التغيير بمعزل عن تأثير الفاعلين الإسلاميين عبر الأطر التنظيمية المختلفة، إلا أن بعض الإفادات والشهادات تشير إلى صلات بين قادة المكتب العسكري والفاعلين الرئيسيين في المشهد الراهن.
الكتاب، على أهمية مادته وكثافة سرده، يفتقر إلى الحفر المنهجي والسبر النقدي وإعمال مناهج التحليل للخروج بنتائج أعمق، مع أن للكاتب حظًا موفورًا من أدوات القراءة الأكاديمية
وعلى ضخامة المعلومات والأسرار الواردة في ثناياه، فإن كتاب صاحب المؤلف الشهير "الإنقاذ: صراع الهوى والهوية" يبعث على الأسئلة أكثر من تقديم الإجابات، ويحرر من المسائل أكثر من أن يقرر في الأحكام. وهو جهد مقدر في التوثيق، يستدعي جهدًا مضاعفًا في التدقيق والتحقيق، وممارسة النقد اللازم في مطابقة الأقوال لما جرى من وقائع، وبيان ماهية دوافعها الذهنية والإدراكية، وتقدير المواقف وتحليل سياق الأحداث.
والكتاب، على أهمية مادته وكثافة سرده، يفتقر إلى الحفر المنهجي والسبر النقدي وإعمال مناهج التحليل للخروج بنتائج أعمق، مع أن للكاتب حظًا موفورًا من أدوات القراءة الأكاديمية، نال بموجبها رسالة الدكتوراه من جامعات ماليزيا، ومارس التدريس الجامعي ردحًا من الزمان، وجمع إلى ذلك اعتناءً بقضايا الفكر والسياسة وممارستها في ميادين مختلفة.
ومن المتوقع أن يثير الكتاب جدلًا واسعًا إذا وقع توظيفه في سرديات الحرب من جهات مناوئة للجيش، أو تم استغلاله في صراعات الإسلاميين مع ارتداداتها الأخيرة، لكنه يبقى محاولة مهمة في استنطاق الأزمة السودانية عبر استنطاق أقطابها في دوائر الأمن والجيش، أو من كان يصفهم الدكتور تجاني عبد القادر بـ"إخواننا الصغار ورهاناتهم الكبيرة"، حتى حدث ما حدث، كأوثق دليل على أن الوقائع فوق مستوى الوصف وأقوى من مقدرة الحرف على البوح.
الكلمات المفتاحية

جنوب السودان.. مأزق قطرة النفط وصراع السلطة الحاكمة
يقول باحث سياسي إن السودان، أحد ضامني اتفاق السلام في جنوب السودان، لم يعد قادرًا على لعب دور جديد؛ لأنه غارق في صراع مسلح

الحكومة الموازية.. توسع دائرة الرفض الإقليمي والدولي
اصطدمت فكرة الحكومة الموازية التي تنوي قوات الدعم السريع، إعلانها في مناطق سيطرتها بموجة واسعة من الرفض الإقليمي والدولي، وعد الأمر بأنه نواة لتقسيم السودان، فيمَا وقفت دول أخرى موقف الحياد.

صحيفة كولومبية تروي تفاصيل رحلات المرتزقة من أبوظبي إلى الفاشر
وصف جنود كولومبيون كانوا يشاركون كمرتزقة في حرب السودان، في صفوف الدعم السريع، النزاع الدائر بالجحيم الممتلئ بالطائرات المسيّرة وقذائف الهاون

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها
قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي
نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية
تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة
أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.