سياسة

التقاء الجيوش في القيادة العامة.. المعاني والآفاق

13 فبراير 2025
القيادة العامة.png
التقت الجيوش في القيادة العامة عقب عام من الحصار
خباب النعمان
خباب النعمان كاتب وباحث من السودان

على مدار يوم وليلة، بسط الجيش هيمنته على مصفاة الخرطوم، بعد أن شقّ مسارًا صعبًا وشاقًا صوب سلاح الإشارة، وقام على الفور بفك حصار القيادة العامة، وشرع في توسيع نطاق سيطرته حتى جهاز المخابرات العامة، وإنجاز أهم مرحلة في سياق استراتيجية التقاء الجيوش بتقطيع أوصال الحصار المُطبق على قيادة الجيش، التي كانت هي الهدف المباشر على الأقل منذ اشتعال الحرب وحتى خروج البرهان من القيادة، في عملية لم تتكشف بعد حقيقتها وطريقتها، وظهرت تداعياتها جليّة في تحويل راهن المعركة ورهاناتها على نحو ما جرى.

في الحال، هرع نخبة من الضباط إلى قبور رفاقهم، يخبرونهم بأن الجيش قد فعلها، وأن دماءهم وتضحياتهم لم تضع هباءً منثورًا. وترافق مع ذلك التركيز على معاني الصمود، باستعادة المقابلة الشهيرة للعميد نبيل عبد الله، الناطق باسم الجيش، وهو يؤكد لقناة الجزيرة أن المؤسسة العسكرية ستكسب الحرب في مختتم الأمر، بما تملك من خبرة متراكمة عمرها مائة عام.

محلل سياسي:  ما تم من التقاء لتشكيلات القوات المسلحة من الناحية العسكرية المحضة انكسار لاستراتيجية حصار الوحدات العسكرية وتقطيع أوصالها

وفي المقابل، بدت قوات الدعم السريع مضطربة إزاء الحدث برمته، ما بين إنكار لجملة الوقائع الشاخصة وتشكيك في رواية الجيش المعضدة بالصور المنقولة من الواقع. إذ أعلن مستشارها الباشا طبيق أن المعارك لم تنجلِ بعد، وأن التحام الجيوش لم يحدث إلا في عوالم الإعلام، بينما دعا الربيع عبد المنعم، أحد أهم الوجوه الإعلامية غير الرسمية للدعم، اللواء عثمان عمليات والعقيد عبد الرحمن لاستدراك ومعالجة ما أسماه خللًا واضحًا يحدث في محاور الخرطوم بحري، ذاكرًا ومذكرًا بأنهما لن يكونا أفضل من قائد الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، الذي يقود المعارك بنفسه في محور الصحراء.

لاحقًا، أطل الفريق أول محمد عثمان الحسين، رئيس هيئة أركان الجيش، في خطاب موجز من مكتبه بالقيادة، الذي لم يبارحه منذ صبيحة الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، مشيرًا إلى أن ما تم إنجازه يؤسس لتاريخ جديد، خطته دماء الجنود والضباط الذين مهروا النصر بتضحيات وبطولات لا تقع على حصر كثافةً ونوعًا، ومؤكدًا أنهم لن يخلعوا لأمة الحرب حتى إكمال تحرير كل صقع من الدعم السريع على امتداد السودان. وهي معركة طويلة، يقف الشعب وقواه الحية في عمق مفاعيلها.

وإزاء ما جرى، منذ عبور القوات المسلحة في السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر من العام المنصرم، تبدو وقائع تقدم الجيش ظاهرة في جميع المحاور بالعاصمة وعلى امتداد أقاليم الوسط في الجزيرة وسنار وعلى تخوم النيل الأزرق وأقصى جنوب النيل الأبيض. ويرى عباس محمد صالح، الكاتب والمحلل السياسي، أن ما تم من التقاء لتشكيلات القوات المسلحة من الناحية العسكرية المحضة انكسار لاستراتيجية حصار الوحدات العسكرية وتقطيع أوصالها، بما يعني حرمانها من التعزيزات والإسناد. وعلى العكس من ذلك، يقول عباس إن استراتيجية القوات المسلحة نجحت في استنزاف وإنهاك العدو رغم تفوقه في العتاد والعنصر البشري، من خلال الفزع، إضافة إلى خطوط إمداد مفتوحة لضمان تسليح متطور يتفوق من حيث العدد والنوع على مؤسسة القوات المسلحة النظامية الأعرق.

ويستطرد عباس قائلًا: إن إعادة ربط وحدات الجيش تعني تطهير العاصمة وربطها بولايات الوسط والشمال والشرق، ومن ثم الإعداد لتحرير كامل ولايات كردفان ودارفور، حيث ستتفوق القوات المسلحة على مليشيا الدعم السريع في تلك الجبهات، رغم حرص الأطراف الخارجية على ضمان واستدامة الصراع لأطول فترة ممكنة. ويعتقد عباس أن إعادة الالتحام بين وحدات القوات المسلحة يعني أيضًا تفوقها في حروب المدن، حيث كانت استراتيجية التمرد في هذا الصدد تقوم على عزل وحدات الجيش ومهاجمتها بكثافة عبر الأمواج البشرية والقصف المتكرر لإسقاطها.

عباس محمد صالح: أهم الدروس المستفادة من الحرب الراهنة يتصل بخوض تشكيلات غير نظامية مساندة في حرب المدن، بتناغم وانسجام من شأنه أن يساعد على دمج المجموعات المقاتلة في مؤسسة الجيش

ويرى عباس أن إعادة الربط تكسب القوات المسلحة خبرة في مكافحة التمرد في المدن ومواجهة قوات مدعومة من أطراف خارجية، وليس فقط مجرد تمردات داخلية محدودة، مما يمكن الجيش من سحق أي تمرد يحدث مستقبلًا، والذي لن يرقى - بحسب عباس - إلى مستوى قدرات الدعم السريع التي وصلت إليها بسبب عاملين رئيسيين: أولهما، حقيقة أنها كانت جزءًا من تشكيلات القوات المسلحة قبل أن تتمرد عليها، وثانيهما، الدعم الخارجي المتعدد كمًا وبُعدًا وغير المسبوق في تاريخ الحروب السودانية.

ويخلص المحلل السياسي إلى أن أهم الدروس المستفادة من الحرب الراهنة يتصل بخوض تشكيلات غير نظامية مساندة في حرب المدن، بتناغم وانسجام من شأنه أن يساعد على دمج المجموعات المقاتلة في مؤسسة الجيش، والاستفادة منها في عمليات إسناد أمني تتطلبها المرحلة المقبلة من خطط دحر التمرد.

ويرى أحمد الخليفة، المحلل الأمني والعسكري، أن حدث الالتقاء يعيد بالضرورة محاولة الدعم السريع الاستيلاء على الدولة فجر الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، وهجومها على القيادة العامة بمئات العربات القتالية، لدرجة أن قائد المليشيا ظهر في الإعلام مهللًا بأن البرهان محاصر وما عليه سوى الاستسلام. في ذات الوقت، وعلى الضفة الأخرى من النيل - يقول الخليفة - كان الدعم السريع داخل فناء سلاح الإشارة يستعدون ليعلنوا سقوطه.

ويشبّه المحلل العسكري ما جرى مع الدعم السريع حال غزوهم للقيادة العامة والفرق، بمن يلامس السحاب قبل أن يسقط في سفح سحيق، فبرغم تأرجح كل الكفوف لصالحهم، إلا أن الفضل يرجع - بعد لطف الله - إلى صمود جنود وضباط القوات المسلحة واستبسالهم. وقد تخرجت بعض الدفعات الجديدة لتجد نفسها في محاص عنيف، يحمون ظهور قادتهم، لم يلتفتوا إلى الوراء أو يبالوا بحجم العدو وقوته.

مضى أكثر من 600 يوم على اندلاع الحرب، وجنود وضباط الجيش في نضال وقتال مستمر. لم تخفهم الهجمات، ولم يبقَ موضع في القيادة والاتصال لم تصله دانة أو تخترقه رصاصة، ومع ذلك لم تنكسر عزيمتهم، فكان أن كسروا بإرادتهم وجسارتهم أشد الحصارات وطأة في تاريخ الحرب، حتى تحقق لهم النصر.

عبد الحليم عباس: المراقب ليوميات الحرب ربما اندهش لصمود الجيش السوداني وعدم انهياره رغم الفارق الكبير في العتاد والعدد والانتشار الواسع في العاصمة

من جهته، أشار عبد الحليم عباس، الكاتب والمحلل السياسي، إلى أن المراقب ليوميات الحرب ربما اندهش لصمود الجيش السوداني وعدم انهياره رغم الفارق الكبير في العتاد والعدد والانتشار الواسع في العاصمة. وربما أُعجب من فرط ثباتهم الانفعالي وبرود أعصابهم في لحظات الصدمة الأولى، ولكن لا أحد كان سيظن أن الجيش سينتصر في النهاية. ومبلغ توقعهم أن قادة الجيش سيصمدون إلى الحد الذي يمكّنهم من الوصول إلى حل تفاوضي، والذي يعد، كما قال عبد الحليم، بحد ذاته إنجازًا للجيش كونه صمد ولم ينهَر.

بيد أن المسافة التي قطعها الجيش منذ تلك اللحظات، من الصدمة الأولى والحصار والهجوم العنيف، حيث كل شيء بدا احتماليًا، بما في ذلك تدمير الجيش برمته، هي مسافة أسطورية ربما لم تخطر ببال أكثر المراقبين تفاؤلًا. في تلك اللحظات – والقول لم يزل لعباس – لم يكن أمام جيش كامل سوى الصمود بلا أي معطيات موضوعية حول إمكانية النصر أو حتى النجاة: قيادة تحت الحصار، بما في ذلك القائد العام، بينما تتعرض المعسكرات الرئيسة لهجوم، وأغلبها خضع لحصار. كل شيء كان واردًا، بما في ذلك الخيانة الداخلية.

ويستطرد حليم قائلًا: في تلك اللحظات، كان العامل الذاتي المتمثل في الثبات والشجاعة والإيمان بالواجب لقلة قليلة من القادة والجنود أمام أرتال الدعم السريع المدججة بكل أنواع الأسلحة، هو العامل الوحيد الذي رجّح كفة الجيش، ربما أكثر من أي خبرة مهنية. وفي الغالب، جاء التخطيط لكسب الحرب في مرحلة لاحقة بعد الصدمة.

يؤكد عبد الحليم أن حدث الالتقاء في القيادة يُعد أسطوريًا بالنظر إلى واقع الحصار في صبيحة الخامس عشر من نيسان/أبريل، والتهديد الذي بدا أقرب من أي احتمال آخر بقتل أو أسر القائد العام وكامل هيئة الأركان. وهو حدث سيخلده التاريخ بلا مراء.

عمرو صالح ياسين: بعبور الجيش إلى القيادة، أُسدل الستار على الفصل الأهم من المؤامرة الثلاثية بمخالب قط الإمارات والدعم السريع وقوى الحرية والتغيير

من جهة مقابلة، يلتقط عمرو صالح ياسين، الأكاديمي والفاعل الثوري، المعنى المتواري خلف حدث الالتقاء من جهة الأفق الرمزي والدلالي، مؤكدًا أن بعبور الجيش إلى القيادة، أُسدل الستار على الفصل الأهم من المؤامرة الثلاثية بمخالب قط الإمارات والدعم السريع وقوى الحرية والتغيير، لتُعلن الدولة السودانية أنها عصية على الاستتباع، كما كانت دومًا وأبدًا عصية على الاستعمار!

يقول عمرو صالح إن الحدث يتمظهر بوصفه حكمة بالغة ودرسًا مشهودًا منثورًا تشهده المنطقة العربية والأفريقية، للذين لم يقرأوا تاريخ هذه البلاد ولم يستبينوا المعاني الكامنة في إنسانها من عزة وكرامة وعراقة، جعلت هذه الأرض من أقدم الدول الحدودية في التاريخ.

فصل جديد يرى عمرو أنه بدأ بفعل الالتقاء وفك حصار القيادة، فصل من فصول عظمة تاريخ الأمة السودانية الممتد في حروب تحريرها وثوراتها، يُكتب بمداد من نور شهداء حرب أبريل من القوات النظامية والمستنفرين. في بلد ما عجز فيه جيل البطولات يومًا أن يلتقي بجيل التضحيات، وظل يلتقي فيه "كل شهيد قهر الظلم ومات بشهيد لم يزل يبذر في الأرض بذور الذكريات"، أو كما قال عمرو مستشهدًا بالفيتوري.

وعلى ما يحمله حدث الالتقاء من دلالات وانفعالات على المستوى الفعلي والرمزي شأن كل انتصار – سيما أنه قلب الوقائع من النقيض إلى النقيض – إلا أن قراءة آثاره والتقاط ثماره يظل مهمة عسيرة عبر تمسرحات المعارك، وعلى نطاقات الجغرافيا العسكرية، ومن خلال سياقات المعركة في ظلالها المحلية والإقليمية والدولية، وتركيب قضاياها ورهاناتها وتشابك مواقفها وسردياتها. وعلى نحو مباشر، فيما حل بإنسانها بوصفه المواطن بالتعريف في غمرة التنكير، والذي وقع عليه عبء الحرب كلها بشكل مكثف ومتواتر، وهو ما يجعل وعد السلام بالسلاح أظهر من دلالة ارتسام خيط على غمامة عابرة.

الكلمات المفتاحية

oil_sudan.jpg

جنوب السودان.. مأزق قطرة النفط وصراع السلطة الحاكمة

يقول باحث سياسي إن السودان، أحد ضامني اتفاق السلام في جنوب السودان، لم يعد قادرًا على لعب دور جديد؛ لأنه غارق في صراع مسلح


قاعة كنياتا التي استضافت اجتماعات قوات الدعم السريع.jpg

الحكومة الموازية.. توسع دائرة الرفض الإقليمي والدولي

اصطدمت فكرة الحكومة الموازية التي تنوي قوات الدعم السريع، إعلانها في مناطق سيطرتها بموجة واسعة من الرفض الإقليمي والدولي، وعد الأمر بأنه نواة لتقسيم السودان، فيمَا وقفت دول أخرى موقف الحياد.


جنود كولومبيون.jpg

صحيفة كولومبية تروي تفاصيل رحلات المرتزقة من أبوظبي إلى الفاشر

وصف جنود كولومبيون كانوا يشاركون كمرتزقة في حرب السودان، في صفوف الدعم السريع، النزاع الدائر بالجحيم الممتلئ بالطائرات المسيّرة وقذائف الهاون


من غلاف كتاب أسباب سقوط حكم الإسلاميين في السودان.jpg

أسباب سقوط حكم الإسلاميين في السودان.. كتاب جديد يرصد وقائع سقوط الإنقاذ

يقفز الكاتب عبد الرحيم عمر محيي الدين في كتابه "أسباب سقوط حكم الإسلاميين في السودان"، إلى رصد المواقف السياسية لقيادات الصف الأول في الحاءات الثلاث: حكومة، وحزب، وحركة

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert