ثقافة وفنون

فيلم "خرطوم أوفسايد" والهوية الإنسانية المفتوحة

7 مارس 2020
201914803_2_IMG_FIX_700x700.jpg
خرطوم أوفسايد (فيسبوك)
معز الزين
معز الزينكاتب وشاعر ومترجم من السودان

يُشكِّل فيلم "خرطوم أوفسايد"، للمخرجة السودانية "مروى زين"، علامة من علامات التفكير خارج أفق سياسات الجندر أو النوع الاجتماعي، والتي هي سياسات تتجاذبها مكامن القوة وعلاقات الهيمنة أكثر من كونها مُشرعة ومُنفتحة على هوية إنسانية أكثر رحابة من الهوية الجنوسية أو الجندرية. إن مشهديات هذا الفيلم، والذي تم عرضه طوال (75) دقيقة ضمن عروض وفعاليات مهرجان السودان للسينما المستقلة، تتوَّسَّل فن المرح والضحك بوصفهما مصدر طاقة تحرُّرية وجمالية للإنسان من وطأة الوجود ومن قيود المجتمع البطرياركي، وذلك بغض النظر عن كون هذا الإنسان رجلًا أم امرأة.

لقد سيطرت على الجمهور حالة من الخِّفة الرنانة التي منحتهم إحساسًا بالرحابة المُرفرفة فوق منطق الثنائيات (رجل-امرأة)، حيث من شأن هذه الرحابة أن تُبذر بذور علاقات مفتوحة بين البشر أكثر من كون هذه العلاقات مسجونة في إعادة التعريف الدائمة والمستمرة للرجل بوصفه رجلًا وللمرأة بوصفها امرأة.

روح الفيلم التي تُحلَّق بخفة حول أجواء المشاهد تطوي بين جوانحها سرديات مضادة لسردية المدينة الذكورية الإقصائية والاستعلائية

وعلى الرغم من أن قصة الفيلم تحكي عن مجموعة من النساء اللواتي كابدن حتى تحقق لهن حلم ممارسة كرة القدم، وهي قصة تحركها السردية الجندرية السائدة التي تخُضع الفعل البشري العادي لضروب من الهيمنات والتمايزات والفوارق، إلا أن روح الفيلم التي تُحلَّق بخفة حول أجواء المشاهد تطوي بين جوانحها سرديات مضادة لسردية المدينة الذكورية الإقصائية والاستعلائية. وهي سرديات مَن قُمعت أصواتهم وحضوراتهم، إذ يخترقها طيف واسع ومتنوع مِن مَن تم تهميشهم وإقصائهم جنوسيًا وإثنيًا وطبقيًا.

إن هولاء النسوة اللواتي كابدن حتى تحقق حلمهن بممارسة فن كرة القدم، تحوَّلن إلى كرويات بهوية من يُتقن فنًا بشكل طليق وليس من يريد إعادة تعريف هويته الجنوسية على نحو إنساني أكثر رحابة فحسب. إن كرة القدم هي فن من فنون الانزياح الجمالي في الفراغ الذي يُحرر الجسد من هويته البيولوجية ومن إسقاطاته الوظيفية والغريزية، ليكون هذه الجسد الكروي مُتفتحًا ومُشَرعًا على الحركة والدوران والقفز، وكأن كرة القدم هي فن من فنون التدوين بالجسد البشري في الفراغ ليكون جسدًا من الخفة والحركة وليس من اللحم والثبات الكتلي البيولوجي. إنهن كرويات يمارسن فنَّاً وليس نساء يعدن تعريف هويتهن الجنوسية على نحو أكثر رحابة فحسب.

إن ممارسة كرة القدم كفن من الفنون لا تُعِّبر عن الإرادة الحُرَّة أو حرية الاختيار فحسب، ولكنها تُحرِّر طاقات الحياة من الجسد المقموع والمكبوت والمسجون في هوية جنوسية واحدة. إن سرديات المقموعين والمقصيين والمهمشين إثنيًا وثقافيًا وجنوسيًا تخترق بطاقاتها التي حررها فن ممارسة كرة القدم سرديات المدينة الذكورية الاستعلائية الإقصائية. لذلك، تتجاوز فكرة الفيلم مجرد كونه شكلًا من أشكال التعبير عن هوية جنوسية تحررت من القمع الذكوري من خلال ممارسة كرة القدم. إن جمالية الهوية الإنسانية المفتوحة الثاوية في طيات فكرة الفيلم، وعبر مشهدياته وتجلياته البصرية، لا تذهب في اتجاهات تحرير المرأة من التنميط الذكوري فحسب، ولكن تُحرِّرها أيضًا من التنميط الحضري والإثني والطبقي. وهي تنميطات تتخلَّل ويتخلَّلها التنميط الذكوري أيضًا.

 يحكي الفيلم قصة فريق كرة قدم تكوَّن من مجموعة نساء ينحدر معظمهن من مناطق جبال النوبة وجنوب السودان. ومن المعروف أن المجموعات الإثنية والقبلية التي تنحدر من هذه المناطق ظلتَّ تعاني منذ استقلال السودان من التهميش الاقتصادي والتنموي ومن الاستعلاء العرقي والثقافي. وهي مناطق حوَّلها التهميش والاستعلاء الممنهج إلى بؤر للنزاعات والحروب الأهلية التي شنتها الحكومات الوطنية المركزية طوال عهود ما بعد الاستعمار على هذه المجموعات. لذلك لا تحمل هذه المجموعة ذاكرة الهوية الجنوسية المقموعة والجريحة فحسب، ولكن أيضًا ذاكرات أخرى تشظت وتناثرت بفعل تجربة الاقتلاع والنزوح والارتحال من مكانٍ إلى مكان بسبب الدمار الذي لحق بمناطقهم الأصلية.

إن إتقان فن كرة القدم حرَّر هذه المجموعة من وطأة محاميل ذاكرات جريحة ومُنهكة ومتشظية، وهو ضرب من ضروب التحرُّر الذي يجعلهن يصعدن إلى سماء الإعلاء الأنثوي الطليق والعابر لحدود التمايزات الجندرية والعرقية والطبقية، كونهن أشرعن تجربة التعلُّم نحو آفاق تشكيل هوية إنسانية رحبة ومفتوحة وليس جنوسية فحسب.

إن قصة هذا الفيلم لا تقف عند حدود التحرُّر والانفكاك من سردية الجندر الثنائية أو الهوية الجنوسية المغلقة، لكنها تخترق اختلاجات بنية العنصرية بغية تفكيكها جماليًا وإنسانيًا، بجعلها بنية مفتوحة لا حدود فاصلة فيها بين الذات والآخر، أو الهم والنحن بإحالتهما التمايزية إلى حضر وريف أو رجل وامرأة أو غني وفقير أو عربي وزنجي. لقد نبتت للجسد الكروي المحلق في الفراغ أجنحة طليقة ريَّشتها جمالية الهوية الإنسانية المفتوحة التي تُرَّفرف حول فريق كرة قدم نسائي يتباري تارةً مع فريق كرة قدم رجالي، وتارةً أخرى يتحول التباري إلى مبارة مختلطة قوامها إطلاق الجسد عبر الفراغ وتحريره من التنميط البيولوجي الذي يسجن الرجل أو المرأة في هويةٍ واحدة. لا حدود إذًا بين رجل وإمراة بقدر ما يتحرَّر الطرفان من كونهما ذوات مجندرة قامعة أو مقموعة.

مخرجة فيلم خرطوم أوفسايد "مروى زين"

عَّبَّر فيلم خرطوم أوفسايد عن روحية ثورة كانون الأول/ديسمبر الجوابة والمرتحلة والعابرة للحدود الضيقة والانتماءات المغلقة

لقد عَّبَّر فيلم خرطوم أوفسايد عن روحية ثورة كانون الأول/ديسمبر الجوابة والمرتحلة والعابرة للحدود الضيقة والانتماءات المغلقة، وهي روحية تنشد الطلاقة والانفكاك من أغلال المجتمع البطرياركي ومن التمايزات العنصرية والتفاوتات الطبقية. إنها الجذرية المرتحلة في نواحي ودروب دغلية معتمة لكنها حتمًا سوف تقبض جذوة النور المُشع من الأعالي الكاشفة والمنيرة لاختلاجات الأشجار المرعوبة من الأجساد الكروية المحلِّقة في الفراغ الُحُّر والطليق.

الكلمات المفتاحية

مسلسل اقنعة الموت.jpg

الدراما السودانية في رمضان.. "سمفونية القتل والتشريد"

تسعى الدراما السودانية في رمضان 2025، للمّ شمل السودانيين في مناطق النزوح واللجوء عن طريق تقديم أعمال تعكس الأوضاع المأساوية التي تمر بها البلاد، بعد أن غطت نيران الحرب على حياة المواطنين وأصبح العنوان الأبرز هو القتل والتشريد.


معرض كتاب القاهرة ومشاركة دور نشر سودانية فيه.png

معرض كتاب مصغر للمؤلفات السودانية بدار تجمع الفنانين في القاهرة

أعلنت مجموعة من دور النشر السودانية عن إقامة معرض كتاب مصغر للناشرين والكتاب السودانيين في العاصمة المصرية القاهرة، خلال الفترة من "10 إلى 17"  من شهر رمضان المكرم.


غلاف مذكرات جثة منتفخة بالحياة.jpg

"مذكرات جثة منتفخة بالحياة" نصوص قصصية تنبش في أعماق الحرب

عن "دار زهرات البيدر للنشر" وتنسيق وإشراف منصة "منتدى السرد والنقد"، صدرت المجموعة القصصية "مذكرات جثة منتفخة بالحياة"، ويضم الكتاب خمس نصوص عن الحرب، لنخبة من كُتاب وكاتبات القصة، مصحوبة بدراسات نقدية من أقلام مُفكرة.


ثلاث روايات سودانية .jpg

أسئلة حارقة: ثلاث روايات تناولت الحروب في السودان

الحرب واحدة من الموضوعات الرئيسية التي اشتغلت عليها الرواية السودانية، لاسيما كُتاب ما بعد "الجيل التسعيني"، الجيل الذي تزامن اشتغاله بالسرد مع اتساع رقعة الحروب في السودان، وتأزم الأوضاع عامة في البلاد، قبل أن تصل مرحلة الانفجار الكبير في حرب الخامس عشر من أبريل 2023.

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert