بين محطة التقدُّم وموسم الهجرة
17 يناير 2020
قد تبدو الكتابة عن الأدب -والثورة ما تزال مثقلة بأوجاع تكلفتها التي تجاوزت قدرات أكثرنا على الصبر والاحتساب، والطريق أمامها ما يزال طويلًا وموحشًا، والثعالب التي تئن تعوي وترهف السمع وتجذبها الدماء الطاهرة- رفاهية، أو ربما انفصالًا عن الواقع، لكن ما يحدث حاليا في الوطن من حالة ترقُّب وانتظار للمستحيل، وحالة الإعجاب المطلق بالقادمين من الغرب، والاتكال الأعمى عليهم، والظن بأن مجلس الوزراء وقياداته يملكون عصا موسى، وسحر أفريقيا، وفروسية عنترة، وحكمة زهير بن أبي سلمى. كل ذلك إضافة إلى حالة إنكار الطاقة الكامنة في الأرواح المتشوقة للحرية والسلام والعدالة، دون أن تبالي بالثمن، تلك الأرواح المتمردة على المادة، وحتى على قدرة الجسد على الاحتمال، يجب أن تعي أن الحل ستصنعه أيادي أصحابها.
دعونا نبدأ النظر إلى مسألة الهوية من عند حديث إدوارد سعيد عن الاستشراق، حيث قدَّمه على أنّه التفاهم مع الشرق
لا بدّ من اليقظة والانتباه لواقع المكون الثقافي المتنوع في السودان حيث هو نفسه شرق وغرب، شمال وشبه جنوب، وقلب مفتت، عادات مختلفة، ومعتقدات تتباين في متشابهاتها، وفوهات براكين حروب أهلية تتصاعد أبخرتها؛ كل هذه التعقيدات، وصفارات الإنذار التي تكاد تصيبنا بالصمم، جعلتني أعود للأدب فهناك التدارس والتدارك، لعلّ الطريق قد استبان للكُتَّاب، وهل الكاتب الجيد إلا قلب بصير؟
اقرأ/ي أيضًا: اجتثاث ثقافة الموت
دعونا نبدأ النظر إلى مسألة الهوية من عند حديث إدوارد سعيد عن الاستشراق، حيث قدَّمه على أنّه التفاهم مع الشرق، ذلك الشرق الذي كان شبه "اختراع أروبي، وكان منذ الزمن الغابر مكانًا للرومانسيّة، أي قصص الحب والمغامرات"[1] إشارة سعيد للحب والمغامرات لا تُحيل إلّا إلى الشرق العربي، حيث امرؤ القيس، ومجنون ليلى، وكثيّر عزة وغيرهم، لكنّ ما يزحم خاطري تمثّلات أخرى في الأدبين الشرقي والغربي جاءت من شرق آخر وعنه، إذ أذهب إلى أنّها جاءت من أفريقيا وعنها، لذلك دعوني أقرِّب الفكرة من خلال حديث مختصر عن روايتَي محطة التقدم لجوزيف كونراد، وموسم الهجرة إلى الشمال لطيَّبنا الطيّب صالح.
إنّ شكل العلاقة بين الذات الأروبيّة والإفريقيّة المجسَّدة في محطة التقدّم لكونراد يكشف الأثر العظيم للقارة السمراء في كشف مثالب الحداثة على الإنسان الأروبي، فكونراد نفسه يقول: "قبل الكونغو كنتُ فقط مجرد حيوان". ورأى غراي أنّ "الحيوان الذي يتحدث عنه كونراد كان الإنسان الأروبي الذي تسبب في موت ملايين البشر في الكنغو"[2].
في محطة التقدم لم يصمد بطلا كونراد في أدغال إفريقيا لأنّ المجتمع الأروبي "منعهما من الاستقلال الفكري، ومن المبادرة.. منعهما الحياة بحجة الخوف من الموت، السبيل الوحيد ليعيشا كان أن يكونا آلات."[3] وقد أشار كونراد إلى ما زرعته مؤسسات التاج البريطاني من وهم في عقول البريطانيين حين عرض أثر ما قرأه البطلان على قصاصات صحف قديمة عن "ما راق لها أن تسميه (توسعنا الاستعماري)"، وتحدّثت عن حقوق وواجبات الحضارة، وعن قداسة العمل الحضاري. كما مجّدت أيضًا حسنات أولئك الذين هبّوا لجلب النور والإيمان والتجارة للمناطق المظلمة من الأرض.
اقرأ/ي أيضًا: الواثق البرير.. والديمقراطية "الحرون"
فلما قرآ هذا الكلام اندهشا وأحسنا الظن بنفسيهما. وفي ليلة قال كارلير مشيرًا بيده: "سيقرأ الناس عن رجلين طيبين كانا أول متحضرين عاشا في هذه البقعة بالذات". أظن أنّ هذه الرواية وآراء كونراد الشخصية عن نفسه بعد رحلته للكنغو، تشرح حقيقة ما عاناه الأوروبيّ حين قدِم إلى إفريقيا من تعرية للذات؛ حيث اكتشف خسارته لإنسانيته الحرة، عقلًا وعاطفة.
بالمقابل لو أردنا تصوير ما أضافته أوروبا للإفريقي حين حاول الوصول إليها والتواصل معها، لن نجد عملا روائيًّا يرسم أثر تلك العلاقة على شخصية الإفريقي خيرًا من رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال". أحيل هنا إلى بعض المفارقات بين الرؤيتين: بطلا كونراد كانا "بامتياز فردين غير مميَّزين، وغير مؤهلين لا وجود لهما إلا بما تمنحه مؤسسة التاج البريطانيّ الحضارية لمواطنيها"[4] بينما كان مصطفى سعيد ذكيًّا فطنًا مبدعًا نابغةً عقله "مدية حادة"[5]، لكنه يفتقر للكيان السياسي الوطني الذي يمنح مواطنيه شعورًا بالفخر والسيادة. هما ذهبا إلى إفريقيا مرغمين، وهو ذهب إلى أروبا طامحًا، واستطاع أن يسحر الأروبيين أنفسهم بمزجه الذكي بين الشرق الأسطوري الذي أشار إليه إدورد سعيد، وبين الشرق الإفريقي حيث الأبنوس وحرائق البخور. لكن مصطفى سعيد كان يشعر بغربة روحية جعلته يلجأ للنساء والخمر، على نحو جعله يعجز حتى عن الحزن لموت أمه. انتهى الأمر بالفارس الإفريقي متَّهمًا بقتل زوجته البريطانية، في محاكمة عكست فشل كل من الطرفين في تقبُّل الآخر، ليعود إلى شمال السودان وسَكينته الوحيدة في البعد عن ماضيه ونجاحاته. انتحرت زوجتا مصطفى سعيد ولم يستطع هو العيش في السودان؛ فاختفى، وهناك انتحر بطل كونراد.
إنّ الأعمال الأدبيّة التي حاولت تجسيد علاقة الشرق بالغرب مليئة بالموت والانتحار أو في أحسن الظروف مليئة بالإحباط؛ ففي الأدب تتعرى حقيقة أنّ الإنسان لا يستطيع الانسجام مع ما لم يعتده، فالأدب يكشف ببساطة عن صعوبة تقبُل الآخر دون تحفظ، وإن كان مولعًا برسم ملامح الاختلاف الثقافي الحضاري ومفارقاته.
نحن الآن أحوج ما نكون لأن نثق في أنفسنا، في مكوننا السوداني، كما هو، على أن يكون السلام خطًا أحمر، لا يُسمَح بتهديده
لعلّ كلّ واحد منا الآن يبحث في نفسه وفي من حوله عن طاقة مصطفى سعيد، التي كانت كلما دق وتده شمالًا، تخبره أن ذروتها في الجنوب، وجذرها راسخ في الوطن،. نحن الآن أحوج ما نكون لأن نثق في أنفسنا، في مكوننا السوداني، كما هو، على أن يكون السلام خطًا أحمر، لا يُسمَح بتهديده، نحتاج الآن لأن نعمل معًا على أنفسنا، لأجل أنفسنا، وأن نعلم أن المعجزات تصنع بعقول وأيادي المخلصين للوطن، وأن لا أحد سيصلح البلاد إلّا إذا كنّا جميعا بنيانها المرصوص، وتذكرنا أن سدّ مأرب العظيم انهار حين أحدث فيه فأر ثغرًا، فلنسدد ونقارب، فكرًا وعملًا، نصل النهار بالليل، فلا غفلة ولا سهو ولا أمنة نعاس، فقط فكر وعمل ويقظة، فقط العمل بإخلاص سيخرجنا من أزمة الثقة التي تكاد تطحن ما نجا من طاعون الفساد ومن نجا منه، وما نجا منه إلا قليل. لا بأس بأن نشرِّق ونغرِّب، لكن هل لنا إلا أن نعود إلى الجذور؟
اقرأ/ي أيضًا
البشير ومايو.. خلفيات تأسيس جهاز الأمن السوداني
الهوامش:
[1] الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق: 42، ترجمة محمد العناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006.
[2] The Silence Of Animals On Progress & Other Modern Myths : 4, first American edition, 2013.
[3] An Outpost of Progress: 4, Published: 1896.
[4] An Outpost of Progress: 9.
[5] تكرر إثبات ذكاء مصطفى سعيد في أكثر من موقف، وشبّهه بالمدية الحادة أربع مرات: صفحات 26/ 30/ 33/ 35. موسم الهجرة للشمال، ط14، دار العودة، بيروت 1987.
الكلمات المفتاحية

من يفكر للسودان؟
يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…

وحوش السودان أيضًا بلا وطن
الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟
منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها
قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي
نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية
تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة
أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.