رأي

السينما في شاشة طفولتي.. حكي منتصف الليل

21 أكتوبر 2019
71539781_681575778999752_8073399581347414016_n (2).jpg
عبدالغني كرم الله
عبدالغني كرم الله
عبدالغني كرم اللهكاتب وقاص من السودان

كانت لنا أفانين في الصوم، مثل الصوم الصمدي وغيره. أحياناً كنا نصوم أسبوعاً كاملاً، (صوم عن إفطار فقط طبعاً) من أجل دخول الفيلم الهندي العظيم، وتناول الباسطة، وكوب الحليب "المقنن" وشراء الروايات البوليسية، ومجلة ميكي، (وأي فيلم هندي كان عظيماً). ألا تتزوج أجمل البنات وأغناهم، فتى فقير، كناس، أو نجار؟ (وماذا نريد في طفولتنا أكثر من ذلك؟) فكنا نجوع من أجل "جنة السينما"، ونقف في الصفوف الطويلة، والشمس الحارقة منذ العصر، فعشاقها كثر، وبوليس "السواري" يلف بأحصنته ويضرب بسوطه كل من ينحشر عفواً بين صفوف نمل السينما الأسمر، الوله، حتى نجلس على كراسي الحديد القاسية، قبالة شاشة السينما، البيضاء، الضخمة.

الحكاية تغيرنا، لسنا نحن في بدئها، مثلما ونحن نقرأ الخاتمة

اقرأ/ي أيضًا: شاشة طفولتي.. الصوم لدخول جنّة السينما!

كل ذلك معروض على شاشة من قماش دمور سحري، نصدقها كعادة الطفولة، أتريد الطفولة الفقيرة أكثر من ذلك؟ أليست الأديان نفسها، تتحايل بالحور العين كي تحث الجميع على التقوى والإحسان؟ وبالسعادة والخضرة مثل جبال الهند؟ كل ذلك كنا نجده في الفيلم الهندي، صورة طبق الأصل، حور عين، وخضرة، وبطولة (لا يموت البطل ولو هوى من جبل إفيرست)، وزواج ميمون بين طبقات المجتمع، وكأن ماركس لم يخلق ويفكر، في أزمة الطبقات "لعنها الله"، التي تفرق الناس أيدي سبأ، وتهزم الحس الإنساني النبيل، والمساواة المباركة. ما أحلى أيام الطفولة، كنا نصدق الأفلام، قبل أن تجرفنا أكاذيب الشباب، ونعرف بأن "الرومانسية" مرحلة، ولكن هناك رومانسية أعمق، حين نرى ظلم وجور الواقع، والتوق لتغييره، بكل السبل، ومنها الفن السابع، النبيل، والمؤثر كالشعر، والموسيقى في النفس البشرية.

نتعجب من القبلات، لم تغمض النساء أعينهن في الفيلم؟ خوفا أن يراها مشاهد قريبها؟ خال أو عم؟ أم تلكم طبيعة وغريزة، لم نسأل فتاة عن سر العماء المصنوع لحيظات القبلة، ولم نر قبلة في القرية من قبل، بل يستحيل رؤيتها ولو في غرف النوم. أهناك غرف نوم في القرية؟ لا أدري كيف يخلو الزوج بزوجته، ينامان في قلب الحوش مع كل الأسرة الممتدة، فيسرح طرفي، لم يغمضن أعينهن؟ أنظر لفتاة بعيدة في السينما، تغمض عينيها هي الأخرى، أهو طقس؟ أم خجل؟ أم أنها عاشت الدور، كبركات السينما، حين تنصب منك بطلاً، تشعر بما يشعر به، وتبكي حين يتألم، ويظل التأثير ساعات بل أيامًا وأيام. لم تكن الشاشة سوى عين، اتسعت بها حياتنا، وتجاربنا، ومخيلتنا، ولم تعرف سبباً للإغماض، حتى حسبت النوم، وهي تغمض بضع سويعات، قبلة جميلة من ملاك الغياب، في مملكة الحلم الساحرة.

نخرج من السينما، ابن أختي وأنا، في ظلمة تضيئها قلوبنا الحالمة، نمشي كأبطال الفيلم، عدوى البطولة انتقلت لعقولنا وقلوبنا، نحدق في عمارة طويلة، فنرى غرفة مضيئة، لا شك هناك فتاة جميلة، منكوشة الشعر الجميل على المخدة، تقرأ رواية رومانسية، وتحلم مثلنا، ومثل بطل الفيلم، سيقودها لا محالة القدر، أن تصطدمني بكتفها، وهي مسرعة في طريقها لعربتها الفارهة، وتتناثر كتبها، فتعاتبني، باستفزاز، مشحوذ ببكاء، وما تلبث أن تخفض لي جناح الذل من الرحمة، ويشهد بعد أسبوع ابن أختي تتويجنا معا كأحلى "قيس وليلى" (هنا مربط الفرس في الفيلم الهندي)، هنا الحلم والواقع أخوان توءم.

عبدالغني كرم الله

حين نصل دارنا، ليلاً، وقد سرنا، ثلاثة كيلومترات، أو أكثر، نجد العصير بانتظارنا، أعددنه بنات أختي، ليس حباً فينا فقط، بل حباً في (حكايتنا الفيلم لهن)، وكانت ذاكرتي طيبة، تؤوي الفلم وعوالمه (ومرات أزيد وأنقص كيفما أشاء، في شاشة ذاكرتي وخيالي)، وكنت أتدلع، عليهن، وهن (أي بنات أخي)، "يحنسنني"، بكل الإغراءات، غسل ملابسي، أو صنع الشاي لي في منتصف الليل، كي أحكي، فأدركت سر الحكاية، وتوق النفس لها، إنها تماماً مثل قصة "شهريار" الذي نسي قتل شهرزاد، وهام بها حباً، لمجرد أنها "ملكة" الحكي، وأميرته الفذة.

الحكاية تغيرنا، لسنا نحن في بدئها، مثلما ونحن نقرأ الخاتمة، وهي تملأ الشاشة الكبيرة، فنخرج وبين قلوبنا قصة عشناها، وبكينا فيها، وطرنا وحلقنا بعيداً بعيداً، أفلا يستحق حكيها كوب عصير؟ في منتصف الليل؟

ما أعجب سلطانك أيتها السينما. أنا الآن بطل، في عيونهن، بطل الحكي، وكنت أزيد، وأنقص وأضيف، حراً، كشأن السينما، فهي بنت الوهم الجميل المؤثر

وأنا أحكي في الفيلم، في حماس صادق، طفولي، أراقب بنات أخي، يشاهدن فيلمًا في مخيلتهن، شاشة عذبة، تحيل (ضوء حزمة ذاكرتي)، لفيلم حقيقي في شاشة قلوبهن، تمثلهن لكل كلمة تقال، فأشعر بأن (الصورة)، ليست في الشاشة، بل في الحروف التي ننطقها، والسرد الذي ننسج خيوطه، بل الحياة صورة، في ذهن كل امرئ، يتمثلها بشكل فردي، حسب وعيه، ومعاناته، وعشقه، "الطرائق بعدد الخلائق" كما يقول شيوخ التصوف الإنساني، لإدراكهم معنى الذات، في مقام الفردية، التي هي أُس حياتنا، وغايتها الأخيرة، أن أكون نفسي، لا شي غيري، مهما كان.

يا لروعة عيونهن والتماعاتها، بنات أخي، وأنا أحكي لهن الفيلم، ما أعجب سلطانك أيتها السينما، أنا الآن بطل، في عيونهن، بطل الحكي، وكنت أزيد، وأنقص وأضيف، حراً، كشأن السينما، فهي بنت الوهم الجميل، المؤثر، لكن حذارى أن تتقدم للأمام، حتى تلمس الشاشة بيديك، لتجدها مجرد حائط، ليس إلا، أهناك وهم وخيال ألذ و"أطعم" من ذلك؟

 

اقرأ/ي أيضًا: 

السينما في شاشة طفولتي.. متعة على حائط الجامع!

السينما.. وجه من وجوه المقاومة

الكلمات المفتاحية

العاصمة-الخرطوم.jpg

من يفكر للسودان؟

يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…


فيلم وحوش لا وطن.jpg

وحوش السودان أيضًا بلا وطن

الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.


الدعم السريع.jpg

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟

منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…


محمد حمدان دقلو - حميدتي.jpg

النسج الخرافي بشأن اختفاء قائد الدعم السريع حميدتي

عند الشهر الثاني بالضبط من اندلاع الحرب السودانية "15 نيسان/أبريل 2023"، بدأ المخيال الشعبي في نسج الحكايات الغرائبية عن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert