ثقافة وفنون

آثار الوراقين.. أين ذهبت كل تلك الكتب النادرة بعد حرب السودان؟

13 فبراير 2025
ساحة اتني.jpg
ساحة أتني في الخرطوم نقطة تجمع الكتاب والوراقين (أرشيفية)
منصور الصويم
منصور الصويمكاتب من السودان

"ذات يوم، ربما بعد اندلاع الحرب بأربعة أشهر، تحركت محاولًا الذهاب إلى جزيرة توتي، فهناك توجد بعض كتبي، وهي غير تلك التي ضاعت في أرض الوراقين بالخرطوم. فشلت في الوصول بسبب الظروف الأمنية الخطرة، فعدت أدراجي صوب مدينة أم ضوًا بان، مقر سكني الجديد بعد نزوحي بسبب الحرب، لكن في الطريق وأنا أفكر في حالي لمحت من نافذة الحافلة مئات الكتب مفروشة على الأرض، مشهد أهاج في نفسي الشجون وكدت أنزل لولا أن الوقت كان قد تأخر والليل أليل".

الوراق عمر: هذه الكتب بينها مؤلفات نادرة ومراجع مهمة يصعب أن تجدها حتى في دار الوثائق السودانية أو كبريات المكتبات

في الخرطوم شرق قريبًا من شارع القصر وعلى مسافة ليست بعيدة عن شارع المك نمر، اختار الوراقون أماكنهم لـ"فرش الكتب"، بالتحديد على أسوار مباني مدارس الكمبوني وتحت حوائط بعض المباني الأخرى المنتشرة في المكان.

لسنوات ظل هذا المكان مزارًا رئيسيًا لمثقفي الخرطوم، وللمثقفين الآتين من جوبا عاصمة جنوب السودان. واختيار الموقع، ووقوعه بين شارعي القصر والمك نمر في تقاطعهما مع شارع السيد عبدالرحمن؛ لم يأت مصادفة، فهذه المنطقة المسماة بالخرطوم شرق تضم أغلب الصحف السودانية، وأهم المراكز الثقافية الأجنبية والمحلية، من ضمنها المركز الثقافي الفرنسي وجوتة الألماني، ومعهد سلتي للغات والبريتش كانسل، لذا فأزقة وشوارع هذه البقعة المباركة تعج بحركة المثقفين والصحافيين وطلاب المعرفة، وخير استراحة لهم من مشاوير نهارات الخرطوم القائظة تكون تحت ظل كتاب.

الوراق عمر

يقول الوراق والكاتب والباحث عمر دفع الله، لـ"الترا سودان": حين اندلعت الحرب فقدنا جميعًا الاتصال بمحلاتنا لفرش الكتب وعرضها، فشرق الخرطوم تقع قريبًا من القيادة العامة للجيش، وعلى مسافة ليست بعيدة من القصر الجمهوري، ما يعني أن كتبنا ومقتنياتنا كانت في قلب المعركة الدائرة عنيفًا في تلك الأيام الأولى من الحرب".

بقي عمر في جزيرة توتي آملًا في أن يجد طريقة للوصول إلى كتبه النادرة المخزنة بالقرب من سور مدارس الكمبوني عند شارع القصر، ورغم أوار المعارك يقول إنه جرب مرة أن يذهب إلى السوق العربي، إذ هاله ما شاهد من خراب، لاسيما لأكشاك المكتبات والقرطاسيات الصغيرة. ويقول إن أقصى مكان وصله كان قريبًا من مستشفى الخرطوم، في محاولة للوصول إلى تقاطع شارع الحرية مع شارع السيد عبدالرحمن، وهذه منطقة رئيسية أيضًا للوراقين، يفرشون فيها كتبهم على جانبي الشارعين، لكن قبل أن يصل لمح عربة مقاتلة يعتليها عناصر الدعم السريع، ومن هناك حذره أحدهم بإطلاق أعيرة نارية في الهواء فعاد أدراجه إلى الجزيرة.

يروي عمر قصته لـ"الترا سودان" ويقول: "رفضت الخروج من توتي لأكون قريبًا من كتبي، بيد أن أهلي أصروا علي للسفر وهددوني ببقائهم في مكمن الخطر إن لم أرافقهم، وكانوا مندهشين من تمسكي بكتبي، سواء التي في توتي أو تلك التي تركتها ورائي في سوق مفروش، ربما ظنوا أن الأمر يرتبط بالقيمة المالية، لكنه بالنسبة إلي كان أكبر من ذلك فهذه الكتب بينها مؤلفات نادرة، ومراجع مهمة يصعب أن تجدها حتى في دار الوثائق السودانية أو كبريات المكتبات، مثل الدار السودانية للكتب، التي سمعت أن مقتنياتها نهبت وهربت إلى خارج السودان، وإن حدث هذا فتلك خسارة كبرى".

ذهب عمر إلى الأهل في أم ضوًا بان في شرق النيل، لكنه رفض مرافقتهم إلى خارج السودان، فلا يزال مثلما قال متمسكًا ببصيص أمل في العثور على كتبه، إلى أن صادف وهو عائد من مشواره غير المكتمل إلى جزيرة توتي، تلك الأعداد الهائلة من الكتب وهي مفروشة على قارعة الطريق في سوق 24 بالحاج يوسف في شرق النيل.

كتب وأعلام

يتابع عمر في حكيه ويقول: "ترددت وسألت نفسي، هل أعود لأشتري من هذه الكتب، التي بلا شك مسروقة؟ سألت بعض الأصدقاء من خيرة مثقفي المنطقة فشجعوني على ذلك، لكني وللاطمئنان أكثر قررت الاستخارة، وبعدها توكلت ونويت الذهاب إلى ذلك المكان، الذي يعج بأحب الأشياء إلى نفسي، الكتب ورائحة الورق وملمس الحبر".

لم يتمكن عمر من العودة إلى الحاج يوسف بسبب الظروف الأمنية، لكن بعد ذلك بفترة قصيرة، وعقب اجتياح الدعم السريع لمنطقة العليفون السكنية، تحولت أم ضوًا إلى واحدة من تلك الأسواق التي عرفت بـ"أسواق دقلو"، التي تعرضت فيها الأشياء والممتلكات المسروقة ومن المنهوبة، ومن ضمن معروضات السوق وجد كمية كبيرة من الكتب، "أمهات الكتب" كما يصفها.

في "سوق دقلو" تصفح الوراق عمر عشرات الكتب المعروضة بإهمال. يتذكر إنه اهتم بشكل خاص بمعرفة "آثارها" ومن أين جاءت وإلى أي مكتبة أو شخص تنتمي. قلب أوراق عشرات الكتب التي تشير صفحاتها الأولى إلى أصحابها الأصليين، من بينها كتب تعود ملكيتها إلى الروائي المعروف عمر فضل الله "ديوان المتنبي"، وأخرى للتشكيلي والمفكر الراحل حسين جمعان، من بينها كتاب للشاعر السوداني محمد أحمد المجذوب، وكتب أخرى كثيرة موقعة بأسماء أعلام معروفين في الثقافة السودانية. في ذلك اليوم اختار ما استطاع من مؤلفات رآها نادرة وذهب إلى بيته على أمل العودة مرة أخرى.

الوراق لا يخسر

يقول عمر دفع الله: "بالنسبة لكتبنا المصير غير معروف الآن، ولن نعرف ما حدث إلا إذا أتيح لنا الوصول إلى أماكن فرش الكتب وتفقدها. ومثلما ذكرت لدي كتب نادرة جدًا، ولا أعرف ما هو مصيرها، لكني أقول دائما الكتب لو اتسرقت أو نهبت، هذا ليس بأشكال طالما هي داخل السودان، فهي اتوزعت في خريطة جديدة للقراء وللمعرفة، فلا ضرر ولا أسى عليها، لأنها أيضًا من المتوقع أن تفعل فعلها في المجتمع".

ويضيف مستدركًا: "نعم صحيح أخذت بطريقة غير مشروعة، لكنها في الأخير ستؤدي دورها في نشر المعرفة وبث الاستنارة، وهذا يتضمن بلا شك إدانة الفعل غير المشروع ومنعه مستقبلًا".

الوراقون والثقافة

الشاعر والناقد حاتم الكناني، يقول إن الوراقين من ضمن النسيج الثقافي السوداني، في المدن تحديدًا، فهم - أي الوراقين - كتاب وفنانين وشعراء ومثقفين ثقافة رفيعة، وقل أن تجد شخصًا ممتهنًا الوراقة من باب الترزق فقط، فهم في الأصل ذوي علاقة وثيقة بالكتاب نفسه.

ويرى الكناني في حديثه لـ"الترا سودان" أن الأمكنة التي تضم الوراقين أصبحت أشبه بالمقاهي الثقافية، يلتقي فيها المثقفون والكتاب، سواء في ود مدني أو الخرطوم أو غيرها من مدن السودان، فأماكنهم صارت ملتقيات للكتاب والفنانين.

ويتابع حاتم قائلًا: "الوراق أو فريش الكتب، يتمتع بصبر كبير جدًا في ما يخص الرزق، وهذا في ظل وضع ثقافي متأزم، لكننا نجدهم رغم ذلك مخلصين جدًا لمهنتهم هذه، لا تؤثر عليهم الظروف الاقتصادية الضاغطة ولا يرضخون لشروط السوق".

ويردف الشاعر الكناني: "يقصد المثقفون والباحثون أسواق الوراقين، لأن الكتب والمخطوطات النادرة لا تتوفر إلا فيها، فالوراق له معرفة حصيفة بالكتاب جعلته يعرف من أين يتحصل على المؤلفات النادرة، وكيف يقيم مادة أي كتاب، وفي أي مجال معرفي، وهو أداة الترويج الأولى للكتاب وسط المثقفين، ويدركون جيدًا الغث من السمين".

حاتم الكناني: الأمكنة التي تضم الوراقين أصبحت أشبه بالمقاهي الثقافية يلتقي فيها المثقفون والكتاب

يختتم الوراق والباحث والروائي عمر دفع الله، حديثه لـ"الترا سودان" بحكاية أخيرة ويقول: "في إحدى المرات صادفت في السوق جهاز كمبيوتر، عليها ديباجة مكتوب عليها أطفال مرضى السكر، فقررت شراءه، على أمل حين تهدأ الأوضاع أعيده إلى جمعية مرضى السكري، ولكن حين ذهب لشرائه بعد إحضار النقود وجدته قد بيع".

ويضيف: "هذه واحدة من مآسي الوراقين، إضافة إلى عدم معرفتنا بمصير دار الوثائق والمتاحف، فكل هذا في إطار عملنا، أما الكتب، التي تشكل الوجدان، فهي دائما مستهدفة في الحروب، فمثلًا مكتبة الأسكندرية استهدفت مرتين قبل الميلاد وفي العصر الإسلامي، ومكتبة الكونجرس الأمريكي احترقت لمرتين، وغيرها من المكتبات العالمية التي تعرضت للتخريب والحرق أثناء فترات الحروب".

الكلمات المفتاحية

مسلسل اقنعة الموت.jpg

الدراما السودانية في رمضان.. "سمفونية القتل والتشريد"

تسعى الدراما السودانية في رمضان 2025، للمّ شمل السودانيين في مناطق النزوح واللجوء عن طريق تقديم أعمال تعكس الأوضاع المأساوية التي تمر بها البلاد، بعد أن غطت نيران الحرب على حياة المواطنين وأصبح العنوان الأبرز هو القتل والتشريد.


معرض كتاب القاهرة ومشاركة دور نشر سودانية فيه.png

معرض كتاب مصغر للمؤلفات السودانية بدار تجمع الفنانين في القاهرة

أعلنت مجموعة من دور النشر السودانية عن إقامة معرض كتاب مصغر للناشرين والكتاب السودانيين في العاصمة المصرية القاهرة، خلال الفترة من "10 إلى 17"  من شهر رمضان المكرم.


غلاف مذكرات جثة منتفخة بالحياة.jpg

"مذكرات جثة منتفخة بالحياة" نصوص قصصية تنبش في أعماق الحرب

عن "دار زهرات البيدر للنشر" وتنسيق وإشراف منصة "منتدى السرد والنقد"، صدرت المجموعة القصصية "مذكرات جثة منتفخة بالحياة"، ويضم الكتاب خمس نصوص عن الحرب، لنخبة من كُتاب وكاتبات القصة، مصحوبة بدراسات نقدية من أقلام مُفكرة.


ثلاث روايات سودانية .jpg

أسئلة حارقة: ثلاث روايات تناولت الحروب في السودان

الحرب واحدة من الموضوعات الرئيسية التي اشتغلت عليها الرواية السودانية، لاسيما كُتاب ما بعد "الجيل التسعيني"، الجيل الذي تزامن اشتغاله بالسرد مع اتساع رقعة الحروب في السودان، وتأزم الأوضاع عامة في البلاد، قبل أن تصل مرحلة الانفجار الكبير في حرب الخامس عشر من أبريل 2023.

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert