وزيرة الخارجية والزخارف اللغوية للاستعمار
4 مارس 2021
انبرى العديد من المتابعين للشأن السياسي، للتبرير للسياسة التي سيتبناها السودان بخصوص أراضيه "التي ليس في حاجة لها"، والتي أعلنتها السيدة وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي، -انبرى العديد لتفسير ومساندة السياسة الجديدة للدولة، باعتبار أن سوء تأويل حدث لكلمة السيدة الوزيرة التي ألقتها في المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيرها المصري أمس الأول، والتي قالت فيها في معرض توضيحها، إن السودان سيعقد تفاهمات مع الدول الجارة ذات الكثافة السكانية العالية بما سيعود ذلك على السودان بفائدة، قائلة أنه بذلك "نستعمِر أراضينا". كما دافع البعض أن الوزيرة تعني بحديثها الأراضي السودانية التي تدعي إثيوبيا منازعتنا لها فيها، ولا تشير بأي صورة للأراضي في الشمال التي تنازعنا عليها مصر، لكن قرينة أن الوزيرة شملت في الرد "الدول" التي تعاني من كثافة سكانية عالية، كما أن القرينة المكانية تؤكد ذلك بوصف المنبر على أرض مصرية، يجعل من التغابي المتعمد حصر ردها على أنه يختص بأراضي "الفشقة".
الحقائق على أرض الواقع تقول أن الأراضي السودانية الحدودية تضع الدولتين "ذوات الكثافة السكانية العالية" أياديهما عليهما مسبقًا
عالميًا، ليس السودان هو الدولة الوحيدة التي من الممكن أن تسمح بقيام استثمارات أجنبية داخل حدود دولتها، وليس ذلك استعمارًا بالمعنى المتعارف عليه، لكن يحتمل كلام وزيرة الخارجية معنى "الاستعمار" بالمحمول السلبي للمعنى، لأسباب وجيهة جدًا، وهي أن الحقائق على أرض الواقع تقول أن الأراضي السودانية الحدودية مع الدول التي تعاني من "كثافة سكانية عالية" تضع الدولتين ذوات الكثافة السكانية أياديهما عليهما مسبقًا، ليس بحجة "التعمير" والفائدة المشتركة، بل بحجة تبعية الأراضي رسميًا لهما، لتأتي وزيرة الخارجية لتضفي مشروعية مخادعة لهذا الوضع على الأرض، سواءً كانت تعني أراضي السودان في الشرق في "الفشقة" أو في الشمال في "حلايب وشلاتين".
اقرأ/ي أيضًا: ما بعد الثورة إلا ثورة
لو أننا قاربنا هذه الصورة في خيالنا بمشاهد طفولية تحدث عادة، فلنتخيل طفلًا وديعًا في إحدى مراحل التعليم قبل المدرسي، يحظى هذا الطفل بلعبة جميلة، اقتلعها منه أحد الأطفال الأكبر سنًا، ثم بعد أن طالب هذا الطفل الوديع بهذه اللعبة الحلوة، عبر البكاء والنحيب، بما يهدد بتدخل المسؤولين وفضح الطفل الآخر، اكتفى الطفل الذي اغتصب اللعبة بدفع مقابل مالي للطفل الأصغر من أجل السكوت، وعندما عاد الطفل إلى المنزل سأله والداها أين اللعبة، أجاب لقد "استأجرتها" لأستفيد منها!
الحيرة اللغوية التي دخلت فيها السيدة وزيرة الخارجية مفهومة تمامًا، فوزيرة الخارجية تعلم تمامًا المحمول المخادع لكلمة "استعمار"، للدرجة التي أزاح فيها المدلول العملي للكلمة معناها اللغوي، فحجة التعمير هي ذاتها حجة "المستعمر" منذ قديم الزمان، وقد كررت الوزيرة أكثر من مرة كلمة "استعمار" مقرونة مع كلمة تعمير بتصاريفها العديدة خلال ردها في أقل من دقيقتين على سؤال الصحفي المصري، لتجد نفسها تتأتئ بين حقيقة الكلمة وزخارفها اللغوية.
إذا قصرنا حديث وزيرة الخارجية على أنه معني فقط بالجانب الخاص بأراضي "الفشقة" على حسب سؤال الصحفي المصري، فذلك يذكرنا بحديث ظل يردد بحذر، حول أن الأطماع الأثيوبية في الفشقة بل حتى منطقة الجزيرة في السودان لم تأتِ عن فراغ، بل يعود إلى وعود قطعها خليفة المهدي عبدالله التعايشي، مع قوميات إثيوبيا يعدهم فيها بالسماح لهم بـ"استعمار" -أو تعمير كما تود وزيرة الخارجية- أراضٍ تمتد حتى ولاية الجزيرة، على أن يعاونوه في أحلامه بغزو مصر و"استعمارها" أيضًا.
وكشفت السياسة الجديدة لحل مسألة الأراضي السودانية في الحدود، المعلنة من قبل وزيرة الخارجية أن الحكومة تتجه لتبني ذات السياسات التي اتبعتها حكومات وطنية مختلفة، والتي أفرزت ذات الأوضاع التي نعيشها اليوم، فهي ذات التفاهمات التي أدت إلى هذه الأوضاع الآن على الأرض، فعوضًا على أن التفاهمات العديدة والمختلفة التي عقدتها الدولة السودانية في كل حكوماتها الوطنية المختلفة مع عدد من حكومات أثيوبيا؛ لم تؤدي إلا إلى تعقيد الوضع على الأرض، يجب أن لا ننسى أن الخلاف مع إثيوبيا لا يحتكم إلى أوراق واعترافات رسمية، بل يعود لأطماع هذه القوميات التي "تمتلك الأرض عبر عبورها وتعبرها امتلاكًا"* في ترحالها الدائم.
اقرأ/ي أيضًا: التطبيع مرة أخرى.. الشق المدني يرمم الوعد الكاذب
قرينة "الدول ذات الكثافة السكانية"، لا تدع مجالًا للشك أن الوزيرة تعني بحديثها "الاستيطان" وليس التعمير أو الاستعمار بمفهومه "الخيالي الجميل"، كما تعني أن الأوضاع ستظل كما هي في واقع الأرض، فالمزارعون الإثيوبيين في الفشقة في شرق السودان، قد أنشأوا وبنوا منازلًا ومساكنًا، وتعاملهم الرسمي ليس مع الحكومة السودانية، بل مع السلطات الأثيوبية في عمليات دفع الضرائب والجبايات.
بالرغم من أن السودان من الدول قليلة الكثافة السكانية؛ إلا أن العديد من السودانيين لا يملكون شبر أرض فيه
وكان من الممكن أن تعلن الحكومة الانتقالية، تبني سياسية جديدة في ضمان عودة وأيلولة كل الأراضي السودانية للسودان، ثم تدعيم ذلك ليس عبر اتفاقيات أو مواثيق وعهود، بل بتمكين السودانيين أولًا من أراضيهم، وتعميرها بأنفسهم، فبالرغم من أن السودان من الدول قليلة الكثافة السكانية إلا أن العديد منهم لا يملكون شبر أرض فيه. فهل يستقيم أن يبني مواطن أجنبي منزلًا في السودان بينما لا يجد الملايين من الشباب السوداني ملجأ لقضاء ليلة، ناهيك أن "يُعمِّر" غيرنا أراضينا.
* تعبير للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في وصف الفكر الترحالي
اقرأ/ي أيضًا
الكلمات المفتاحية

من يفكر للسودان؟
يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…

وحوش السودان أيضًا بلا وطن
الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟
منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها
قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي
نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية
تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة
أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.