نوستالجيا سودانية.. حتى الحزن كان جميلًا
9 أغسطس 2018
في أطروحة الحنين السودانية، يتشبث الناس بلحظة ماضوية، تعتقل كل مشاعرهم وأفكارهم، وتنتقل بخفة لا متناهية من جيل إلى آخر. حتى أن الجيل الذي يولد اليوم يحاول بعد سنوات التحرر من قيود الحاضر، الولوج إلى تلك الحالة الكلاسيكية تقريبًا، ما يعني أنه داء قديم جدًا، مستودعه الأخير أول الخلق، والجنة قبل كل شيء.
جميعنا بلا استنثناء مفتونون بالماضي، أو ما نطلق عليه "الزمن الجميل" كشوق دائم لأيام الرخاء والانتصارات والألفة والحب
نحن، وعلى ما يبدو، لا نتواطأ مع ذلك الشعور مجانًا، فكل ما نتقدم في العمر تتعاظم المتاعب والمسؤوليات، وتستعصي علينا كثير من الأمنيات، في حين لا نعثر على طريق يليق بتطلعاتنا، وهو المغزى العميق للمكابدة.
اقرأ/ي أيضًا: النوستالجيا تربح دائمًا
أسرى الزمن الجميل
جميعنا بلا استنثناء مفتونون بالماضي، أو ما نطلق عليه "الزمن الجميل"، كشوق دائم لأيام الرخاء والانتصارات والألفة والحب أيضًا، قد تسمعه في تلك الأهازيج الشعبية: "زمن الزمن زين، وﺍﻟﻠﺤﻢ ﺑﺎلأوقة ﻭﺍﻟﺴٌﻜﺮ ﺑﺎﻟﺮاﺱ، ﻭﺟﻮﺯ ﺍﻟﺤﻤﺎﻡ ﺗﻼﺗﺔ".
وما يثير العجب حقًا أن شوارع الخرطوم كانت تغسل بالصابون والديتول، وتعرض سينما "برمبل" و"كلوزيوم" الأفلام الجديدة في وقت عرضها في "ريجنت ستريت" و"سينما روكسي"، فيما لم ينتشر السرطان والإيدز والإيبولا والانتحار. كما أن أغرب دفقات الحنين تظهر لدينا عند رثاء الموتى الذي نجيده، بكثافة تعبيرية هائلة، وبكائية هي في الواقع استدعاء لأوقاتنا الحميمة التي قضيناها معهم. كان كل شيء جميلًا، حتى الموت.
لعل نمط الحياة الذي كان سائداً في سودان الخمسينات من القرن المنصرم، وإلى نهاية السبعينات، لم يغادر الذاكرة؛ صور بالأبيض والأسود، فمعظم الأغاني والكتابات هائمة في تلك الحقبة تحديدًا. تدخل اليوم استاد كرة القدم، أو تسافر بالقطار، أو تمشي في شوارع الخرطوم، فتشعر بالغربة وأنت من أهلها، ولا تحس بالأمان، ولكنك عندما تلتقط الأماكن القديمة، تلسع روحك البهجة، ويشتعل الدفء في صقيع العمر، لدرجة المغامرة بالذوبان. وبإمكانك أن ترى كل شيء يتوهج في الأزقة القديمة، خاصة وجوه النساء المليحات، واللواتي ألهمن "شعراء الحقيبة" ولم يجد الزمان بمثلهن، كان ذلك قبل اكتشاف عمليات التجميل بالمناسبة!
لهذا خُلقت الأيديولوجيا
لم يمت أحد بالتخمة على الإطلاق، وبالمقابل لم يمت أحد بالجوع، ولم نسمع قط بالخنوع للسُلطة، لدرجة أن الشعب السوداني صنع ثورتين قُبيل الربيع العربي، الأولى عندما أطاح بالجنرال إبراهيم عبود في تشرين الأول/أكتوبر 1964، والثانية انتفاضة نيسان/أبريل 1985، والتي أزاحت الرئيس الأسبق جعفر محمد النميري من الحُكم. واليوم حتى الأحزاب السياسية أسيرة للماضي مثلنا، وهي مجرد صدى لمواقف تاريخية وزعماء حددوا لها معالم الطريق، في وصاية أبدية، ولهذا خلقت الأيديولوجيا غالبًا.
هدر العمر كله في طاقة الحنين ظالم وقاتل أيضًا، وبأي حال لن يهرع ما نسميه بالزمن الجميل لإنقاذنا من الورطة الآنية
بإمكاني أن أسترسل في ذلك، ولكنني سأقع في نفس الخطيئة ربما، مثل كل جيل يرى نفسه مجرد ضحية للراهن السياسي، ويمارس الهروب من أقداره دون إبداء أي استعداد للمقاومة والاحتجاج على الواقع عمومًا. ولعل الخطورة في هذا الحنين الآخذ بالتدرج، أنه يفسد علينا الحاضر تمامًا، ولا نسعى بأي درجة إلى تغيره، وجعله صالحًا للعيش.
اقرأ/ي أيضًا: عن نوستالجيا "إعدادات ضبط المصنع"
كل ما يمكن أن يقال قد قيل حقًا، وبالمنطق الذي جعل هذه النوستالجيا تستعمرنا بصورة مُطلقة، ونعجز معها عن تحمل مصائرنا، أكثر من الخلاص الفردي، وإنما بجعل هذا الحاضر مناسبة للفخر والمباهاة، وهو حلم لا يتخلق بالاستكانة، والشعور العاجز المدمر. فهل نشفى بالتذكر والأحلام، بينما الأسعار في علو وأقدار الناس في هبوط؟
هدر العمر كله في طاقة الحنين ظالم وقاتل أيضًا، وبأي حال لن يهرع ما نسميه بالزمن الجميل لإنقاذنا من الورطة الآنية، إن كان ثمة ورطة بالفعل، أو خوض تجاربنا بالوكالة. ما هو مقبول ومنطقي، أن التاريخ خُلق للعبر والتدبر لا أكثر، لكنه لا يصلح أبدًا كمكان للعيش، وفيه من الطغاة والتعساء والمستعبدين ما لا يسر بالمرة، وقد أبيديت الكثير من الأمم وطمرت الحضارات، بجانب محاولات قتل الأنبياء، وانقرضت الحيوانات النادرة، وكان هناك أكثر من سبب لينتحر الشعراء والفلاسفة!
عاطفة الحنين حقيقية ومبررة، لا غنى عنها، ومعظمنا ينتمي بكل جوارحه إلى زمنٍ مضى بالفعل. لكنها عندما تحتل خيالنا بصورة هستيرية تفقدنا القدرة على التفكير، وتحيل كل حظوظنا إلى جحيم، ولا نشعر بعدها بأي خجل من التنكر لمجتمعنا، كما أن تلك العاطفة وببساطة تقتل فينا الطموح.
الاستعانة بالاستعمار عمل وطني!
من قبل تعرض السودان للاستعمار الانجليزي، ورغم مرور أكثر من 60 عامًا على الاستقلال، إلا أن تلك الفترة ازدهرت فيها البلاد، وترك لنا المستعمر أعظم منجزات: السكة حديد، ومشروع الجزيرة الزراعي، وجامعة الخرطوم، والخدمة المدنية. وكانت تلك أعمدة الدولة الحديثة، حتى أن امرأة سودانية هتفت لهم وقتئذ: "إن شاء الله يا الإنجليز لا تفوتوا لا تموتوا"، مع وجود تيار المقاومة كذلك. وبعد سنوات طويلة من الحكم الوطني فرطنا في تلك المكاسب، وخرجت بعض الأصوات اليوم تطالب بعودة الاستعمار!
عاطفة الحنين حقيقية ومبررة، لا غنى عنها، لكنها عندما تحتل خيالنا بصورة هستيرية تفقدنا القدرة على التفكير في الحاضر
عندما نتصفح ألبوم صور السودان القديمة ينتابنا إحساس بالضياع والأسى الغامض، ونشعر بالمتعة، لا أعرف لماذا، ولكن نشعر بها، ربما كتعويض لفقد ما، أو سلوى تهون علينا متاعب عابرة، ولذلك نحب الحكي، ونقرأ أشعار هاشم صديق بدهشة عميقة: "عندما كنتُ صغيرًا كنت مفتونًا بجيفارا وسولارا وجومو ونزار.. كنتُ مبهورًا بسارتر ونيرودا ولوركا وكل أبطال اليسار"، وبذات المعنى نردد معه: "كانت الدنيا عزيزة ولذيذة"، أو كما يبدو، فإن حالتنا اليوم "تحنن الكافر"، حيث حالة من الكدر العام وشظف العيش بدا كما لو أنها بالضبط هي الوقت المناسب لنواح النوستالجيا.
اقرأ/ي أيضًا:
الكلمات المفتاحية

من يفكر للسودان؟
يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…

وحوش السودان أيضًا بلا وطن
الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟
منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها
قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي
نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية
تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة
أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.