رأي

مواعيد السودانيين!

25 أكتوبر 2019
khartoum.jpg
أيقظت الثورة في نفوس السودانيين الأمل بمستقبل أفضل
عامر صالح
عامر صالحصحفي من السودان

“Sudanese people lack punctuality”

قالها لي "الخواجة" وهو يقطب حاجبين أشقرين، على وجه نصبت عليه شمس السودان كلَفها الأسود كأعلام لجحافلها المنتصرة أبدًا في بلادي التي بالقرب من خط الاستواء، -والاستواء هنا اسم على مسمى- يلومني على تأخري. لم أرد على تقريعه البارد، فأنا متأخر بالفعل، ولكن مرّ بخاطري ذعر المواصلات وتلاطم أمواج الأجساد للنيل من باب المركبة، والذي سأظل معلقًا به طوال الطريق بصورة خطرة تعودت عليها في مواصلات السودان. في المواصلات العامة في السودان يبدو أن الوصول بالنسبة للراكب أهم من حياة الإنسان، فالسعي واجبٌ في الحالة البشرية، حتى ولو كان بلا نتيجة، وهو هنا دومًا كذلك؛ بلا نتيجة، ولكني وددت لو أخبر الخواجة المتنطع سليل الذين بدأوا مأزقنا هذا، أنني تحركت قبل ساعات من الموعد المضروب، وها أنا ذا تأخرت ساعة أخرى، ولا أملك عذرًا سوى السودان، لكنني لم أراهن على فهمه، فهم لا يفهمون بلادنا، ولا نحن، ويا ليت بلادي لم تك عذرًا.

في فلسفة الأخلاق والقانون، وحتى عند الديان، لا يمكنك تحميل أحدهم مسؤولية ما هو مكره عليه

في فلسفة الأخلاق والقانون، وحتى عند الديان، لا يمكنك تحميل أحدهم مسؤولية ما هو مكره عليه، فالمسؤولية تقع على المكلف الذي يملك نفسه، وتنبع تصرفاته من ضمن جملة خياراته، وفي بلادي التي "وسط العالم تحت الشمس"، لا خيارات لي هنا، فأنا مكره على الذعر، مثلي مثل أبناء جلدتي الذين هم أوراق في مهب رياح المصائر، التي لا سلطة لهم عليها سوى ذعرنا التليد ثم الأسى، أو الإضراب عنها وحلم الرحيل، وأجمل ما في بلادي حلم الرحيل أو كما قال الشاعر، فالعالم هنا ورغم أخذه جذوة النار من بلاد ما بعد البحار، لم يروض الظروف بعد، بل صار في منزلة بين المنزلتين، تدعس بكل ثقلها على الإنسان.

اقرأ/ي أيضًا: عن وجوه السودان الأخرى

أرى ذلك الذعر في كل شيء؛ في المواصلات كما في الإجراءات الحكومية، في الأسواق كما في المستشفيات العمومية، فالمستقبل هنا، حتى الدقائق القليلة القادمة؛ شيءٌ غامضٌ، رمية نرد في ظلمات الهوة، قلّما تأتي بما يشتهي الإنسان. فترى الواحد منّا مذعورًا في كل شيءٍ، يحاول أن يسابق سيف الأقدار، وهو الأعلم أن يد الأقدار النافذة في هذه البلاد، لا راد لها سوى ألطاف الله.

قبل يومين، سُرق هاتفي المحمول بطريقة أقل ما يمكنني أن أقول عنها أنها صادمة، فقد كنت أتبحر الشبكة العنكبوتية أتلصص العالم الذي يحدث خلف نافذة المتصفح، والذي صار ملجئي من كل هذا الرهق، بينما أنا مقيد بالشرط السوداني لمقعدي غير المريح في المركبة العامة المتهالكة في خرطوم الثامنة مساء الحارة، بعد يوم طويل تلقيت فيه شتى الضربات من كل شيء هو خاطئ في بلادي، وألا ليت عمري كل شيء هنا خاطئ، وليس لسواد الناس ممن هم مثلي يد في ذلك، بل هو تطاول العهد بالبطش والنهب على أيدي العصابات المتتالية التي حكمت البلاد، فلا عمرت ولا تركت الناس تعمر، بل تمادت في الغي فخلت لنا البلاد جثةً حارة، نعمل على إحيائها من الموت بعزيمة النساء والرجال الحالمين الثائرين، فقد نرضى بالبلاد وترضى بنا بعد كل هذا التعب.

اقرأ/ي أيضًا: قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال

قلت سرق هاتفي وهو في حقيقة الأمر خطف من النافذة، خطفه طفل على دراجة نارية. كان نحيلًا بملابسه الرثة المهدلة، وهو يعكس الشارع المزدحم على دراجته التي بلا إضاءة، لم أعرف أأخاف منه أم أخاف عليه، فتركته لحاله، فهو مثلي وأسوأ حالًا مني، رمته بلاد الشمس في دور لا يقوى عليه، ولكن يؤديه وهو يعلم أن فيه هلاكه، فمن أنا لأحكم، فكلانا بلا خيارات. ثم مضيت لا ألوي على شيء، بينما ساد في الحافلة صمت الحملان التي لا تعرف سوى التسليم بالمصائر.

مهمة الدولة الحديثة هي تهيئة الظروف وإزالة العقبات ليسعى الإنسان في الطريق الذي يشاء، ليجلب المنفعة لنفسه وللناس، أو على أقل الفروض ليكفي الناس شره أجمعين -وتلك منفعة- وفي بلادي نحن أبعد ما نكون عن دولة من هذا النوع، فغياب كل شيء من الحرية مرورًا بالسلام وليس انتهاءً بالعدالة، ولو حتى في شكلها الإجرائي، جعل البلاد مطحنة كبيرة تتصادم فيها المصائر كحبات القمح، ليتفتت الناس وتتفتت قيمهم فلا يبقى منهم شيء سوى مزيج غريب تتضارب فيه الغرائز مع الرغبات، ويبقى جوهر الإنسان عاجزًا أمام كل تلك الشروط التي تجعل من حياته جحيمه الخاص، فلا يملك إلا أن يستسلم بدءًا، أو يقاوم ويفشل. فالحياة الطبيعية بتحدياتها العادية هي ترف لا نملكه هنا، ولربما لذلك تمتلئ الاوساط بالشباب الذين يدَّعون العدمية، بينما هم في الحقيقة عاجزون ومكبلون، لا يملكون أن يصنعوا من حياتهم شيئًا، فيختارون التخلي عن كل شيءٍ طواعية، حتى لا يقتلعه منهم السودان اقتلاعًا.

لا بد للحكومة على أقل تقدير أن تستثمر في الأمل الذي أيقظته في نفوسنا ثورتنا الباسلة

لا توجد مهمة أصعب من مهمة حكومة دولة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، فالسودانيون الذين واجهوا آلة القتل بصدور عارية، وبطون خاوية، يتوقعون نتائج عاجلة، تحمل بعضًا من أعباء السودان من على أكتافهم. وبما أن النتائج العاجلة المرضية والمستدامة قد تكون صعبة، ولربما مستحيلة وسط هذا الركام الخرب الذي تركته لنا الإنقاذ الملعونة؛ فلا بد للحكومة على أقل تقدير أن تستثمر في الأمل الذي أيقظته في نفوسنا ثورتنا الباسلة، ولا يكون ذلك فقط بالتوجه للخارج طلبًا للعون والمساعدات، من العالم الذي كان يتفرج بينما تسحلنا الدبابات والقنابل، وإنما بالعودة للجذور وتمليك السودانيين الحقائق كاملة وإشراكهم في مهمة المعالجة، علّ ذلك يربي الأمل ويخفف من ذعرنا التليد، فمواعيد السودانيين، لا يفهمها إلا أصحاب المصلحة، الذين يصارعون غيلان الواقع اليومي على الأرض في الشوارع، والتي في كل التفاصيل، والتي هي من الجحيم.

أقول يا حكومة: "وعُّونا، وعُّونا!"

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رِفقًا بـ"حمدوك": ساحر بلا عصا أو معجزات

ثورة السودان.. الحلّ الجذري أمام الأبواب الموصدة!

الكلمات المفتاحية

العاصمة-الخرطوم.jpg

من يفكر للسودان؟

يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…


فيلم وحوش لا وطن.jpg

وحوش السودان أيضًا بلا وطن

الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.


الدعم السريع.jpg

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟

منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…


محمد حمدان دقلو - حميدتي.jpg

النسج الخرافي بشأن اختفاء قائد الدعم السريع حميدتي

عند الشهر الثاني بالضبط من اندلاع الحرب السودانية "15 نيسان/أبريل 2023"، بدأ المخيال الشعبي في نسج الحكايات الغرائبية عن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert