لماذا يجب رفض الحكومة الموازية في السودان؟
19 فبراير 2025
لم يكن "محفل نيروبي" سوى محاولة لإنقاذ مشروع سياسي وعسكري آيل للسقوط، بعدما فقد تحالف مليشيا الدعم السريع مع بعض السياسيين أي شرعية داخلية أو دولية. فالمحاولة الجديدة لإعلان "حكومة موازية" في مناطق سيطرة المليشيا ليست إلا إعادة تدوير لذات التحالفات التي باعت السودان للممولين الإقليميين، وعلى رأسهم الإمارات. من شعار "تصحيح المسار" إلى "مشروع التحرير"، تتغير العناوين، لكن تبقى الحقيقة ثابتة: هذه القوى لا تسعى إلى إنهاء الحرب، بل إلى تأمين حصصها في سوق السياسة السودانية، حيث يُشترى الولاء بالمال، وتُباع الشعارات لمن يدفع أكثر.
تكشف الوقائع أن هذه الخطوة ليست سوى محاولة يائسة لتغطية الانهيار العسكري والسياسي الذي مُنيت به مليشيا الدعم السريع منذ بداية الحرب في نيسان/أبريل 2023
وفي ظل الأزمة المتفاقمة التي تعصف بالسودان، جاءت هذه الخطوة التي تمهد للوصول إلى اتفاق سياسي بين الدعم السريع وعدد من القوى السياسية والحركات المسلحة، أبرزها الحركة الشعبية شمال، جناح عبد العزيز الحلو، والذي تم تأجيل إعلانه لأسباب فنية أو ضغوطات مورست على الحكومة الكينية.
وفي هذا الصدد، يرى البعض أن تحالف عبد العزيز الحلو مع عبد الرحيم دقلو، المسؤول المباشر عن الجرائم بحق المساليت، ناتج عن المال السياسي، لكن الواقع أعمق من ذلك؛ فالحركة الشعبية لا تتخذ مواقفها بناءً على حسابات فردية، بل وفق رؤية إستراتيجية ترى في الدعم السريع حليفًا ميدانيًا قادرًا على إضعاف سيطرة المركز، بغض النظر عن انتهاكاته ضد مجموعات أخرى في الهامش.
وفي السياق، فرضت القوات المسلحة سيطرتها على منطقة الدشول ومعسكر الحركة الشعبية شمال (SPLM-N) بعد عمليات عسكرية استمرت لعدة أيام، حيث حشدت قيادة الفرقة 14 مشاة كادوقلي قواتها وتقدمت نحو الكويك، ثم باشرت بقصف معسكرات الحركة الشعبية قبل أن تكمل عملياتها اليوم بهجوم بري انتهى بالسيطرة على الدشول.
وبالعودة إلى "محفل نيروبي"، تكشف الوقائع أن هذه الخطوة ليست سوى محاولة يائسة لتغطية الانهيار العسكري والسياسي الذي مُنيت به مليشيا الدعم السريع منذ بداية الحرب في نيسان/أبريل 2023. ويحاول منظمو المحفل تصوير الحكومة الموازية كخطوة نحو السلام، لكن الحقائق على الأرض تكشف العكس، حيث استمرت مليشيا الدعم السريع في ارتكاب جرائم ضد المدنيين، كما حدث في القطينة، حيث قتلت أكثر من 200 شخص خلال يوم واحد، بحسب "محامو الطوارئ".
حين اندلعت الحرب، حاولت مليشيا الدعم السريع الترويج لنفسها كقوة "تصحيحية" تدّعي حماية الثورة، لكن سرعان ما انكشفت حقيقتها كمليشيا ترتكب المجازر بحق المدنيين. على مدار 22 شهرًا، أصبحت الحرب حربًا ضد الشعب السوداني، وليست مجرد صراع على السلطة. جرائم الإبادة الجماعية في دارفور، والدمار الهائل في الجزيرة، والاعتداءات الممنهجة على المدنيين في الخرطوم وكردفان، جعلت مليشيا الدعم السريع تفقد أي شرعية سياسية أو أخلاقية. لقد تحوّلت المليشيا من قوة متمردة إلى جماعة متورطة في انتهاكات جسيمة، ما جعل أي مشروع سياسي ينبثق عنها فاقدًا للمصداقية.
كما أن المفاجأة الأولى التي مكّنت الدعم السريع من السيطرة على مساحات واسعة كانت الإمدادات اللوجستية والتمويل القادم من الإمارات عبر مسارات في تشاد وليبيا. لكن مع استمرار الحرب، بدأت الأخطاء التكتيكية ونقص الذخيرة يؤثران على عملياتهم، خاصة مع تراجعهم في معارك حاسمة مثل جبل مويا، سنجة، ود مدني، ومؤخرًا في بحري وشرق النيل وأم روابة والرهد في شمال كردفان، حيث استعاد الجيش زمام المبادرة بدعم من القوات المساندة والتفوق الجوي. هذه الخسائر تؤكد أن الدعم السريع لم يعد قادرًا على الاحتفاظ بمكاسبه الميدانية، وأن مشروعه العسكري يتجه نحو الانهيار.
حصل الدعم السريع على غطاء سياسي من القوى المنتمية إلى "قوى الحرية والتغيير" (قحت) عبر ما سُمِّي بـ"تقدُّم"، رغم نكرانهم الظاهري لهذا الأمر، لكن هذا التحالف سرعان ما بدأ في الانهيار
إلى جانب ذلك، حصل الدعم السريع على غطاء سياسي من القوى المنتمية إلى "قوى الحرية والتغيير" (قحت) عبر ما سُمِّي بـ"تقدُّم"، رغم نكرانهم الظاهري لهذا الأمر، لكن هذا التحالف سرعان ما بدأ في الانهيار. محاولة تشكيل "حكومة منفى" بدعم خارجي عمّقت الانقسامات داخل تحالف تقدم، بينما انكشف تواطؤ بعض القادة مع مشروع المليشيا، ما أفقدهم أي مصداقية أمام الشارع السوداني. اليوم، باتت الشخصيات السياسية التي راهنت على الدعم السريع في عزلة، بعدما أصبحت تُوصف بأنها مجرد أدوات في مشروع خارجي يهدف إلى تقسيم السودان وإخضاعه عبر أذرع الاستعمار الجديد.
كما تحوّل قادة الدعم السريع إلى مطلوبين دوليًا، حيث فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على شخصيات رئيسية، كحميدتي وعبد الرحيم دقلو، بسبب تورطهم في جرائم حرب. حتى الدول التي كانت تُراهن على إمكانية شرعنة المليشيا بدأت تتراجع، خشية أن تجد نفسها في موقف داعم لكيان متهم بارتكاب فظائع موثّقة. هذه العزلة جعلت محاولات الدعم السريع لإضفاء الشرعية على "حكومته الموازية" أشبه بمحاولة عبثية لإعادة تدوير مشروع ميت.
فقدان للشرعية وتكريس للانقسام
لكن وبالنظر إلى التبريرات التي يسوقها مؤيدو هذا المشروع، فإن هذه الحكومة الموازية تمثل تهديدًا مباشرًا لوحدة السودان واستقراره، وتفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والصراعات الإقليمية، سنحاول استعراض بعض الأسباب التي تجعل رفض هذه الخطوة ضروريًا لمنع انهيار الدولة السودانية بشكل كامل.
تفتقر الحكومة الموازية إلى أي شرعية قانونية أو سياسية، فهي ليست ناتجة عن انتخابات حرة، ولا عن توافق وطني شامل، بل عن اتفاق بين طرف عسكري وقوى سياسية تسعى لتحقيق مكاسب آنية دون مراعاة لمستقبل البلاد. إن تشكيل حكومة في ظل سيطرة مليشيا متهمة بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة ضد المدنيين هو شرعنة للواقع المفروض بقوة السلاح، وليس خطوة نحو الحل السياسي.
هذه الخطوة لا تعني سوى تكريس التقسيم، حيث ستُقابل بحكومة أخرى في بورتسودان، ما يؤدي إلى حالة من "ازدواجية السلطة"، كتلك التي شهدتها ليبيا بعد 2014، حين أدى وجود حكومتين متصارعتين إلى تفكك الدولة وتفاقم النزاع المسلح. إن ترسيخ هذا النموذج في السودان يعني أننا أمام سيناريو شبيه، حيث تتحول البلاد إلى ساحة لصراعات داخلية وإقليمية لا نهاية لها.
رغم أن مؤيدي الحكومة الموازية يدّعون أن الحصول على اعتراف دولي بهذه السلطة سيكون سهلًا، فإن الواقع يؤكد العكس: المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، لا يعترف حتى الآن بحكومة بورتسودان، ناهيك عن كيان جديد منبثق عن مليشيا عسكرية. إضافة إلى ذلك، فإن تشكيل حكومة في ظل سيطرة الدعم السريع لن يكون سوى بداية لعزلة دولية جديدة، وستتحول هذه "السلطة" إلى كيان غير معترف به، يواجه تحديات سياسية واقتصادية لا حصر لها.
بل إن دعم بعض الدول الإقليمية لهذه الخطوة، مثل كينيا، ناهيك عن أنه يطعن في السيادة الوطنية السودانية، فإنه قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الإقليمية، ويجعل السودان ساحة جديدة لصراعات بالوكالة، حيث تدعم دول معينة الحكومة الموازية، بينما تدعم أخرى حكومة بورتسودان، مما يعقّد جهود السلام بدلًا من تسهيلها.
وفي سياق متصل، يبرر مؤيدو الحكومة الموازية هذه الخطوة بأنها تهدف إلى توفير الخدمات للمواطنين في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، لكن الواقع يشير إلى أن المدنيين سيكونون الضحية الأولى لهذا المشروع.
هذه الحكومة ستكون مجرد أداة لتعزيز نفوذ الدعم السريع، حيث سيتم استغلال الخدمات الأساسية كوسيلة لفرض الولاء، بل إن تشكيل حكومة موازية قد يضفي شرعية زائفة على ممارسات الدعم السريع الإجرامية
هذه الحكومة ستكون مجرد أداة لتعزيز نفوذ الدعم السريع، حيث سيتم استغلال الخدمات الأساسية كوسيلة لفرض الولاء، بل إن تشكيل حكومة موازية قد يضفي شرعية زائفة على ممارسات الدعم السريع الإجرامية تحت غطاء "إدارة الدولة".
علاوة على ذلك، فإن هذه الخطوة ستؤدي إلى خلق هياكل إدارية موازية غير قادرة على العمل بفعالية، مما يزيد من معاناة المواطنين الذين أصبحوا أصلًا بين فكي كماشة الحرب والنزوح والجوع.
في المحصلة، إن محاولة تشكيل حكومة موازية ليست سوى استمرار لمحاولات الدعم السريع اليائسة لإضفاء الشرعية على سيطرته العسكرية، لكنها لن تؤدي إلا إلى تعميق الأزمة. فالمليشيا، التي خسرت شرعيتها الأخلاقية والعسكرية، تحاول الآن استبدال الهزيمة في الميدان بمناورات سياسية عقيمة. لكن السودانيين، الذين قاوموا مشاريع التقسيم والتبعية في الماضي، أكثر وعيًا الآن بأن الحل لا يكمن في تعدد الحكومات العسكرية، بل في إنهاء حكم العسكر تمامًا وإعادة السلطة إلى المدنيين.
من كل ذلك، فإن القوات المسلحة ومن خلفها ملايين السودانيين اليوم أمام خيار واضح، إما أن يُسقطوا المشاريع التي تُدار من الخارج، أو أن يتحول وطنهم إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية. وكما أسقطت ثورة ديسمبر نظام البشير رغم القمع، فإن إرادة السودانيين قادرة على إسقاط مشاريع التقسيم، مهما تعددت محاولات إعادة تسويقها.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
الكلمات المفتاحية

من يفكر للسودان؟
يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…

وحوش السودان أيضًا بلا وطن
الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟
منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها
قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي
نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية
تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة
أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.