رأي

شباب السودان بين الحرب والتهميش.. هل حان وقت استعادة الدور المفقود؟

14 فبراير 2025
لجان- الجزيرة.jpg
(تعبيرية)
الفاتح محمد
الفاتح محمدكاتب من السودان

منذ اندلاع الحرب في السودان في منتصف نيسان/أبريل 2023، وجد شباب السودان أنفسهم في قلب الأزمة، ليس فقط كضحايا، بل أيضًا كوقود لصراع لا يخدم تطلعاتهم. في بلد يشكل فيه الشباب أكثر من 60% من السكان، كان يُفترض أن يكونوا محور أي مشروع وطني، لكنهم وجدوا أنفسهم بين مطرقة التهميش وسندان الاستقطاب الحاد في معركة يديرها جيل من القادة العسكريين والسياسيين الذين أثبتوا فشلهم مرارًا وتكرارًا في التأسيس لسودان جديد، والحديث هنا ليس عن معركة عسكرية.

في تاريخ السودان، كان التهميش السياسي والاقتصادي سمة أساسية في علاقة الدولة السودانية بشبابها، رغم أنهم كانوا المحرك الأساسي للثورة التي أطاحت بالرئيس المخلوع عمر البشير في 11 نيسان/أبريل 2019. لكن بدلًا من تمكينهم، استمرت النخب العسكرية والسياسية في تكرار نفس أخطاء الماضي

في تاريخ السودان، كان التهميش السياسي والاقتصادي سمة أساسية في علاقة الدولة السودانية بشبابها، رغم أنهم كانوا المحرك الأساسي للثورة التي أطاحت بالرئيس المخلوع عمر البشير في 11 نيسان/أبريل 2019. لكن بدلًا من تمكينهم، استمرت النخب العسكرية والسياسية في تكرار نفس أخطاء الماضي، مؤدية إلى إقصائهم من المشهد السياسي العام، وفشلت في إدارة إنتقال تأسيسي محولة المشهد إلى صراع وتجاذبات حول السلطة رغم أنها حظيت بأكبر دعم شعبي في كل تاريخها.

وعندما اندلعت الحرب، لم يكن لديهم أي صوت في القرارات المصيرية التي أدخلت البلاد في دوامة العنف الحالية. اليوم، يُستهدف الشباب بوسائل مختلفة: فمن لم يُقتل أو يُعتقل، وجد نفسه نازحًا يبحث عن مأوى، أو عاطلًا بلا فرصة للنجاة من الفقر المدقع، مع معاناة 25 مليون سوداني (نصف السكان) من انعدام الأمن الغذائي، بينما نزح 10 مليونًا داخليًا ولجأ 3.2 مليون إلى دول الجوار، اضافة إلى حوالي 150 ألف قتيل بحسب منظمات دولية.

ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية حيث تجاوز التضخم 187.83% في كانون الأول/ ديسمبر 2024، مع دمار حوالي 85% من القطاع الصناعي، إلى جانب انعدام الأمن، أصبح الانضمام إلى أحد الفصائل العسكرية خيارًا إجباريًا لكثيرين، إما بدوافع حماية الأرض والعرض، أو نتيجة لضغوط مجتمعية أو استقطاب إثني وعرقي حاد في معركة وصفها الكثيرون بالوجودية. حيث يتم الزج بالشباب المحرك الأساسي للعمليات العسكرية في الحرب، بينما تستمر النخب في صراعاتها السياسية دون أي اعتبار لمن يدفع الثمن الحقيقي.

وفي ظل هذا الواقع القاتم، اختار آلاف الشباب الهجرة، سواء عبر منافذ رسمية أو بطرق غير نظامية بحثًا عن الأمان والفرص. هذه الهجرة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي هروب من واقع لا يوفر أي ضمانات لمستقبل مستقر. ومع ذلك، لم يكن الطريق سهلًا، فقد وجد الكثير من الشباب أنفسهم في مخيمات اللاجئين أو يعيشون أوضاعًا قانونية هشة في بلدان الجوار، أو يعانون التهميش في مجتمعات جديدة لا تعترف بمؤهلاتهم ولا توفر لهم فرصًا مناسبة.

من ناحية أخرى، هناك فئة من الشباب استطاعت الاستفادة من الفرصة وإعادة بناء حياتها، سواء عبر استكمال التعليم أو الاندماج في سوق العمل. لكن السؤال الأهم: هل يمكن لهؤلاء الشباب لعب دور في إعادة بناء السودان مستقبلاً؟ أم أن الهجرة ستخلق قطيعة دائمة بينهم وبين وطنهم، مما يفقد السودان أحد أهم موارده البشرية؟

وفي الصدد، الشتات السوداني يمكن أن يكون قوة إيجابية إذا تم استثماره في دعم قضايا الداخل، سواء عبر الضغط السياسي، أو دعم المشاريع الاقتصادية والتعليمية، أو حتى تكوين شبكات تضامن عالمية مع السودان. لكن حتى الآن، لا توجد رؤية واضحة تربط هؤلاء الشباب بوطنهم، في ظل انشغالهم بصراعات البقاء في مجتمعات جديدة، وغياب قيادة وطنية تستثمر هذه الطاقات لصالح التغيير الحقيقي.

ثمة فئة من الشباب ترفض الانجرار إلى العنف أو اللجوء وتختار طريق المقاومة السلمية، سواء عبر العمل الإغاثي كغرف الطوارئ، أو محاولات التوعية وبناء السلام

لكن في المقابل، ثمة فئة من الشباب ترفض الانجرار إلى العنف أو اللجوء وتختار طريق المقاومة السلمية، سواء عبر العمل الإغاثي كغرف الطوارئ، أو محاولات التوعية وبناء السلام. هؤلاء يدركون أن الحل ليس في استمرار لعبة السلطة التي أتقنتها النخب، بل في إعادة تعريف المشروع الوطني برمته، بحيث يُبنى على أسس مختلفة تمامًا عن تلك التي أدت إلى انهيار الدولة، عن طريق تأسيس عقد اجتماعي جديد يضمن العدالة ويقطع مع إفلات الجناة من العقاب.

وعلى الرغم الدعوات الدولية لسلام شامل، تستمر النخب في تكريس الاستقطاب، فالحكومة في بورتسودان ترفض أي حوار مع مليشيا الدعم السريع، بينما تطرح قوى موالية للمليشيا فكرة "حكومة موازية" سيتم الإعلان عن ميثاق سياسي للقوى المشاركة في تكوينها في 17 شباط/ فبراير الحالي. وفي خضم هذا، يُستبعد الشباب من صناعة القرار، رغم أنهم الأكثر تأثرًا بالحرب. فالمبادرات الدولية مثل اجتماعات القاهرة وجنيف تُركِّز على تفاوض النخب السياسية والعسكرية، دون إشراك ممثلين عن الحركات الشبابية.

هل يمكن بناء مشروع وطني جديد؟

الحقيقة أن ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة سياسية أو عسكرية، بل أزمة تأسيسية متجذرة منذ الإستقلال. لا يمكن الحديث عن مستقبل السودان دون مواجهة حقيقة أن الطبقة السياسية والعسكرية الحالية لا تفكر إلا بمنطق سلطوي، وتسعى فقط إلى إعادة توزيع النفوذ، وليس إلى حل جذري ينقذ البلاد من دوامة الانهيار. لكن الحلول الترقيعية لن تجدي نفعًا، والسودان بحاجة إلى تأسيس يرتكز على الحرية والسلام والعدالة.

إن أي حل لا يُشرك الشباب في إعادة بناء السودان سيكون هشًا وقصير الأمد. فكيف يمكن الحديث عن سلام مستدام بينما تظل الأجيال الجديدة مهمشة، بلا تعليم، وبلا فرص، وبلا دور في تقرير مصيرها؟ كيف يمكن إعادة بناء الدولة دون مواجهة حقيقية مع الجرائم التي ارتُكبت في الماضي والحاضر وأهمها حرب أبريل؟

في هذا الصدد يطرح البعض ضرورة "طي صفحة الماضي" والمضي قدمًا، وكأن الدولة لم تمر بكارثة كادت أن تعصف بها نهائيًا. لكن كيف يمكن البناء على أنقاض دولة لم تُحاسب قادتها على ما ارتكبوه؟ كيف يمكن تجاوز الكارثة دون مساءلة المسؤولين عن وقوعها؟

وفي السياق، الحديث عن المصالحة الوطنية لا يمكن أن يسبق المواجهة مع الحقيقة، والمرور بعملية عدالة انتقالية شاملة، وإبعاد كلي للجيش عن السياسية، لا يمكن الحديث عن مستقبل السودان دون النظر إلى جذور هذه الحرب، ودون الاعتراف بمسؤولية القيادات العسكرية والسياسية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع. لا يمكن القفز إلى التنمية والتوافق بينما لا تزال الجرائم تُرتكب، ولا يزال مرتكبوها يطالبون بأن يكونوا جزءًا من الحل دون أي مساءلة.

إذا كان هناك أمل حقيقي، فهو في تبني نهج جديد يتجاوز التفكير السلطوي ويضع أسسًا واضحة لا يمكن تجاوزها. لا يمكن لمن كانوا جزءًا من الأزمة أن يكونوا قادتها نحو الحل. المطلوب هو توافق جديد، ليس على تقاسم السلطة والثروة كما حدث في جميع إتفاقيات السلام طوال تاريخ السودان الحديث، بل على مبادئ تأسيسية لا يملك أحد حق تجاوزها. البلاد لا تحتاج إلى تسوية تضمن بقاء الفاعلين الحاليين، بل إلى مشروع وطني حقيقي يضع السودان على طريق مختلف جذريًا.

في ظل هذا الخراب، وفي ظل توازنات القوى المعقدة التي قد تدفع إلى سيناريوهات أبعد ما تكون عن إعادة البناء، يظل هناك شباب يؤمنون بأن السودان بحاجة إلى تأسيس جديد، إلى حوار حقيقي يعترف بالجرائم المرتكبة، ويركز على الضحايا، لا على حماية الجناة. لا يبحث هؤلاء عن سلطة، ولا ينتمون إلى النخبة القديمة أو يعانون من أمراضها، ولا يريدون أن يكونوا جزءًا من لعبة سياسية عقيمة. بل يسعون إلى إعادة تشكيل مسار البلاد على أسس صلبة، بعيدًا عن منطق التسويات السلطوية التي لا تُنتج إلا أزمات جديدة.

ما يطرحه بعض الشباب هذا الأيام ليس مجرد مطالب إصلاحية، بل رؤية مختلفة تمامًا لمستقبل البلاد. رؤية تتجاوز الحسابات السياسية قصيرة المدى، وترفض أن يكون الحل مجرد إعادة تدوير للنخب القديمة. السودان بحاجة إلى حوار شامل وتوافق تأسيسي تكون النخب جزء منه وليس كله، بمعنى أن لها الحق في المشاركة ولكن ليس لاحتكار القرار وإدعاء تمثيل السودانيين، وإذا فشلت هذه المرة في التوافق، فمن الاجدى تجاوزها بصناعة مجتمع مدني حديث وطبقة سياسية جديدة تقود التأسيس ولو بعد حين، نحتاج لوضع أسس جديدة تمنع تكرار دورات العنف، وتعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السياسة والعدالة، وبين السلطة والمحاسبة.

ما يجري اليوم في السودان هو نتيجة عقود من المراوغة السياسية، حيث يتم تجاوز المحاسبة باسم "التسويات السلطوية"، وبيع الأوهام بأن تجاوز الجرائم الماضية هو السبيل الوحيد للاستقرار

ما يجري اليوم في السودان هو نتيجة عقود من المراوغة السياسية، حيث يتم تجاوز المحاسبة باسم "التسويات السلطوية"، وبيع الأوهام بأن تجاوز الجرائم الماضية هو السبيل الوحيد للاستقرار. لكن السودان لم يستقر يومًا بهذه السياسات، بل ازداد اضطرابًا. لا يمكن بناء دولة جديدة بالأدوات ذاتها التي دمرت القديمة، ولا يمكن لشباب السودان الاستمرار في لعب دور الضحية أو الوقود لصراعات النخب.

الآن، أختار بعض الشباب العمل السلمي، لكن هذه الجهود يجب أن تتحول إلى حركة أوسع تتجاوز العمل الفردي إلى تنظيم مشاريع سياسية ومجتمعية، تطرح بديلاً حقيقيًا عن معادلة الصراع الحالية. لا يمكن أن يكون المستقبل مجرد استنساخ للماضي، ولا يمكن أن يبقى الشباب رهينة بين التهميش والتجنيد القسري. عليهم أن يفرضوا أنفسهم كطرف رئيسي، لا مجرد وقود لصراعات الآخرين، عبر تحويل الجهود الفردية إلى حركاتٍ مؤسسية، ومن ثم الضغط على المجتمع الدولي لوقف توريد الأسلحة، إلى جانب تجاوز الانقسامات العرقية لصالح هوية سودانية جامعة.

السؤال إذًا ليس ما إذا كانت النخب ستسمح بميلاد مشروع جديد، بل متى سيقرر الشباب استعادة دورهم الفاعل في صياغة مستقبلهم بأنفسهم؟ وكما قال عبد العظيم أحد شهداء ثورة ديسمبر "تعبنا يا صديقي؛ لكن لا يمكننا الإستلقاء أثناء المعركة".

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

الكلمات المفتاحية

العاصمة-الخرطوم.jpg

من يفكر للسودان؟

يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…


فيلم وحوش لا وطن.jpg

وحوش السودان أيضًا بلا وطن

الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.


الدعم السريع.jpg

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟

منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…


محمد حمدان دقلو - حميدتي.jpg

النسج الخرافي بشأن اختفاء قائد الدعم السريع حميدتي

عند الشهر الثاني بالضبط من اندلاع الحرب السودانية "15 نيسان/أبريل 2023"، بدأ المخيال الشعبي في نسج الحكايات الغرائبية عن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert