حول تفاهة الشر وجذور العنف
8 يناير 2020
أحد أبرز أحداث الأيام الفائتة كانت متمثلة في إدانة قتلة الشهيد أحمد الخير بالقتل العمد في قضية تعذيب أستاذ مقاطعة خشم القربة والتي تعاطف معاها كل قطاعات الشعب السوداني إبان ثورة كانون الأول/ديسمبر وذلك بسبب الطريقة الوحشية التي عذب بها حتى الموت، فضلًا عن رمزية "المعلم" في المجتمع السوداني السمح المبتعد في الغالب عن نوازع العنف.
يطرح أمر إدانة (27) من عناصر الأمن في هذه الجريمة التي يندى لها جبين الإنسانية الكثير من الأسئلة الصعبة!
يطرح أمر إدانة (27) من عناصر الأمن في هذه الجريمة التي يندى لها جبين الإنسانية،عددًا من الأسئلة: ما الذي يدفع البشر لهذا القدر من العنف تجاه شخص واحد أعزل لا يشكل أي خطورة في محبسه؟ فمهما تعالت رغبات التشفي والإذلال لا يمكن تخيل أن تصل لهذا المدى غير المستوعب للإنسان السوي. خلقت القضية جدلًا في الأسافير بين النخب حول طبيعة الدافع البعيد لهذه الدرجة من العنف وساد إلى حد معتبر الرأي القائل أن "الآيديولوجيا الإسلاموية" الشمولية هي السبب في هذا العنف، ولقي هذا الرأي رواجًا مما ساهم في استدعاء أدبيات الإرهاب السائدة في الإعلام المرئي والمسموع لتعضيد هذا الرأي.
اقرأ/ي أيضًا: البشير ومايو.. خلفيات تأسيس جهاز الأمن السوداني
دفعني هذا الجدل للنظر في السؤال المعروف بسؤال العنف والذي كتب فيه الكثير في أدبيات العلوم الاجتماعية، ووجدتني أتبنى الرأي القائل أن أي فكر له قابلية للعنف أو التحول إلى عنف ويقوم مدار الأمر كله على البنية الاجتماعية أو الظرف الاجتماعي السائد وأيضًا على "السلطة" وأعني بها هنا "القوة السياسية الباطشة".
تحدثت منذ أواسط ستينات القرن العشرين فيلسوفة علم الاجتماع السياسي "حنة أرندت" في كتابها "ايخمان في القدس"، عن أدولف ايخمان وهو مهندس النازيين لعمليات الإبادة الجماعية عبر المحرقة لليهود وهي العمليات التي عرفت رسميًا في الدولة النازية باسم "الحل الأخير". وقد شهدت أرندت جلسات محاكمته كلها والتي ضمنت تفاصيلها في عملها "ايخمان في القدس" وكانت قضية هذا العمل حول العدالة والنظم التوتاليتارية وما إلى ذلك. لفتني تعبير "تفاهة الشر" الذي وسمت به أرندت قضية ايخمان ككل والذي كان دفاعه عن نفسه في الجلسات أنه "كان ينفذ الأوامر ويطيع علم بلاده". الأمر الذي أثار فيما بعد في عدد من الدوائر الأكاديمية سؤال الحرية الفردية والبنية السلطوية المهيمنة وهو جدل قديم متجدد بأشكال متعددة في علم الاجتماع. فهل يكون للعنف تعاريف وتبريرات أخرى في سياق سلطة الدولة والبنية المسيطرة؟ وهل تذوب حرية وذاتية ومعيارية الفعل عندما يدخل الفرد في سياق البنية أم لا ؟ مما يثير أيضًا سؤالًا مهمًا حول الفصل الحديث بين الأخلاقية المعيارية للفعل وبين كونه صائبًا من ناحية مؤسسية. فقائد المركبة الحاملة لليهود ومؤدية بهم نحو المحرقة هو في الحقيقة يشارك في عملية إبادة ولكن في نفس الوقت هو يؤدي "وظيفته" وهي قيادة العربة. وهذا طرف من هذا المأزق المعروف في أدبيات هذا المجال.
لا أميل لتخصيص فكر معين بالعنف، فبنيوية العنف وكمونه يكون بصورة رئيسية في قابلية الإنسان للعنف والشر متى ما توفرت السلطة وانعدمت الرقابة والوازع الأخلاقي.
اقرأ/ي أيضًا: الواثق البرير.. والديمقراطية "الحرون"
على سياق متصل، من التجارب الشهيرة في علم النفس تجربة سجن ستانفورد والتي خلقت ضجيجًا كبيرًا في أوساط هذا العلم، وعلى الرغم من الجدل الذي لا زال قائمًا حول مدى فاعليتها في توصيف سلوك الإنسان داخل بنية السلطة إلا أنها تعتبر مؤشرًا لا بأس به في فهم هذا الأمر. حيث قام الدكتور زيمباردو في جامعة ستانفورد بعمل تجربة محاكاة للسجن الحقيقي وذلك بإحضار متطوعين للعب دور السجانين والسجناء وكأنها بيئة حقيقية. لم تكتمل المدة المقررة للتجربة حيث اضطر الدكتور لإيقافها، وذلك بسبب النزوع غير المتوقع للمتطوعين الممثلين لدور السجانين لعنف زائد عن المتوقع وابتكار أنواع جديدة من الإذلال والإهانة والتعذيب للسجناء الآخرين. كان هذا التماهي في التجربة والتلذذ بسبب السلطة الممنوحة والأمان من المسائلة القانونية، كان كل ذلك قائدًا لهذا النزوع الشديد نحو العنف.
لا يمكننا تبرير العنف ثقافيًا بإلصاقه بالأفكار حيث ينهار هذا الحجاج مع أول مماحكة نقدية حيث نجد سواء على مستوى العالم أو على مستوى التاريخ السياسي السوداني
لا يزال بالتأكيد الجدل قائمًا حول هذه التجربة. ولكن بالمجمل يعتبر ذلك مؤشرًا لقابلية الإنسان للشر/العنف وللخير على حد سواء، ولكن يتوقف كل ذلك حول الرقابة والوازع والظروف الرادعة والمحجمة لذلك، فلا يمكننا تبرير العنف ثقافيًا بإلصاقه بالأفكار حيث ينهار هذا الحجاج مع أول مماحكة نقدية حيث نجد سواء على مستوى العالم أو على مستوى التاريخ السياسي السوداني، المليء بشواهد العنف من كل التيارات من اليمين إلى اليسار إلى الوسط.
رحم الله الشهيد أحمد الخير وشل أيدي قاتليه وانتقم منهم. ولا نقول إلا أن الشر تافه.. والعدالة باقية.
اقرأ/ي أيضًا
الكلمات المفتاحية

من يفكر للسودان؟
يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…

وحوش السودان أيضًا بلا وطن
الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟
منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها
قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي
نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية
تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة
أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.