رأي

بروفايل ثوري.. سلسلة كتابات لانهائية

31 أكتوبر 2019
الشهيد عبد السلام كشه.jpg
عبد السلام كِشه
معز الزين
معز الزينكاتب وشاعر ومترجم من السودان

(1) واهب النار والنور

"إنه إنسان حقيقي.. حقيقي كالحياة.. واضح كالعالم وبسيط كالماء. يشبه الثورة وتشبهه.. كان عاشقًا حرًا للحياة وللناس"     

إحدى صديقات الشهيد عبد السلام كِّشه            

                                                

لقد قُدِّر لعبد السلام كِّشه أن يُحلِّق عاليًا مع شهداء الثورة السودانية التي تأججت احتجاجاتها الشعبية لما يقارب الثمانية أشهر، ما بين مظاهرات الدمازين في 13 كانون الأول/ديسمبر 2018 إلى مواكب 30 يونيو 2019. ويُعد تاريخ ميلاد كشة، الموافق 1992، علامة على طريق ثوري طويل أخذ يمتد حارقًا أحشاء الغول الإسلاموي الذي لم يتوان في نهاية المطاف عن التهام أبنائه الذين خرجوا من صُلبه، شاهرين أيديولوجيا العدم الإسلاموي تحت رايات ما سمي "المشروع الحضاري" المُرفِّرفة فوق جباه "الدبابين" و"الجهاديين" في حروب التهمت قلب البلاد قبل أن تقتات أطرافها اليانعة الخضراء، بعد أن قادت محارق حرب جنوب السودان في نهاية المطاف إلى انفصاله جسدًا لا روحًا. سيبقى الجنوب في جهات القلب الأربع الواسعة الرحيبة. سيبقى من الشمال، من الغرب، من الشرق، ومن جنوب الجنوب وسيبقى وطن اللاجهويات القادمة من فجر الهويات الثقافية المفتوحة وترياقها المضاد لفاشية اللاشعور الجمعي السياسي.

حتى في موته المُحلِّق بطيوره إلى حدائق الملكوت، لم يكن يرى عبد السلام كشه سوى السماء ونجومها التي تنهل من عينيه الوهج والصفاء

في صورهِ وحياتهِ، وحتى في موته المُحلِّق بطيوره إلى حدائق الملكوت، لم يكن يرى عبد السلام كشه سوى السماء ونجومها التي تنهل من عينيه الوهج والصفاء. فالثائر يُحلِّق إلى موته ولا يموت. الثائر هو الجسارة التي يأكل في صحنها الخوف المحروم من أن ينجو من خوفه المتأصل. الثائر يرى ما لا يُرى، فتتفتح له أبواب السماء بيوتًا لسُكنى الفقراء والكادحين والمسحوقين الذين ضاقت بهم الأرض فانتخبتهم الأعالي المُنيرة الزرقاء لسكناها الرحيبة الفسيحة.

اقرأ/ي أيضًا: حتى لا يسرق شبح الطبقة الوسطى ثورتنا الجذرية

كانت كل ظهوراته الثورية، في الساحات والميادين، وفي المخاطبات والمواكب واللقاءات الحاشدة، ترهص بميلاد ذلك الثوري الذي يتوّسل الخِّفة الرنانة والمرح الفنان كأداة منهجية موجهة للسلوك الثوري. وكأنه ترجمان جيله ودليله الهادي والمُرشد إلى شكل جديد لسياسة مُضَّادة للتسلط الأبوي والاستبداد الداجن. فحتى في حضوره الاجتماعي العادي، لن ترى سوى طائر البراءة يخرج محلقًا من عينيه ليحط على يديه. لكم كانت تغُّني ملامحه في ساحة الاعتصام بكل بساطة طفل "المراسيل" المنطلق في دروب الحواري وأزقة الأحياء الشعبية. يُجسِّد كشه حالة عضوية اجتماعية أكثر من كونها سياسية بالمعنى الدارج والسائد في العمل العام. وذلك على الرغم من تجربته النضالية التي امتدت من جامعة "الدلنج" إلى "جامعة النيلين"، حيث لم يتسن له إكمال دراسته الجامعية نظرًا لانشغالاته السياسية المتخمة بالحيوية والمُخضبة بالطفولة والبراءة وصفاء القلب ونبل المقصد. يُعد كشه كشَّاف ينابيع ثورية تستمد سياستها العضوية من حنان الحياة اليومية والعيش العادي الدافئ الحميم مع كل من يجاوره. لم يبحث عن السياسة في مكانٍ أبعد من لطف الحال والمآل. أراد للسياسة أن تطلع من دفء البيت قبل أن تصل إلى الشوارع والمواكب الهادرة.

في أوج بدر تمامه واكتمال إشعاعه، في النزع الأخير من ليلة مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، كان مُنيرًا كالقمر الذي يدور راقصًا في خِدِر حبيبته الشمس. كان كشه رؤومًا  ولا يبخل على  حبيبته الشمس بما تبقى من وهج ذلك النهار الثوري القصير في ساحة الاعتصام. زارعُ الضحكة على حواف شوارع صديقه الشعاع. فالقلب أخضر، واليد تُرفرف بالهبات وتجود بما تبقى من أكل أو رصيد هاتف أو ابتسامة أو ضمة حنان لصديقة مكلومة أو صديق في ساحة الاعتصام. كان كالشجرة التي لم يحَوق ظلِّها لجارتها الضريرة، فطالت تتشابى كي تظللِّها بغيوم من السماء. فكلما ضاقت ساحة الاعتصام ضجرًا وسأمًا، كلَّلها كشة بالروقان الثوري والوجد اللطيف. كان من أجمل ما أنجبته حياتنا، وأنبل من وهبتهم السماء وسامتها الزاهية. طفلُ الأرض والسماء. صديق الناس والأشياء. النور والظلام كانا يجلسان على كتفيه اختيالًا ويغازلان بعضيهما بين حفيفِ شعره وخَلجَاتِ أغصان أصابعه الراقصة، كلما تهلَّلت أسارير وجهِه بالابتسام الضحوك.  كان شاهقًا وعاليًا في همته. والطيور لا تسحر أو تغار من عبوره المحلِّق إلى ما وراء سدرة اللامنتهى.

اقرأ/ي أيضًا: قوى الحرية والتغيير.. أداء مخيب للآمال

الطيور نبتت من خيال شكله الوسيم وريَّشت أجنحتها من حاله الرقيق. فهو من جنسها اللطيف وعشيق بنات خالها قوس قزح.

حمل وجهه اليانع وسامة الشوارع ونبل الطرقات. فمثل هذا الوجه البسَّام لا يحملُ إلى الناس سوى خِّفة الحدائق المُرفرِّفة بفراشها وبرياحينها الخضراء. لكم سيدوم هذا الوجه الوضاء. لكم سيبقى فينا دافئًا أنيسًا، مُضَّمِدًا فراغات الأنين الصامت بين كل آهة وضمة: سيبقى كأبهى ما يكون، زاهيًا كحِّناء الكنداكات، وطاعمًا  كلبن الأمهات الأرامل. هذا الوجه النيِّلي المُخصَّب برائحة شجر الصفصاف والليمون، ستتوَّسد وسامته بأحلى ما يكون، حزن صبيِّة تتمَّشى كل مساء على الضفاف لكي تجد درب حنانها التائه.

لن تجد رائحة كِشه بعد اليوم إلا في وجه كل جائع. ستجدها ريَّانة طرية تَلفحُ البيوت كثوب الجارات المتزاورات كل صباحٍ ومساء. ولن تجد نظرته الصافية إلا في عين كل ضرير. وابتسامته ستحلُّ بكل أناقتها الباهرة على وجه كل مُشرٍّدٍ أورثه الحرمان رفيقًا أبديًا من الحالمين الأحرار بقامة كِّشه. لقد عاد كِّشة إلى موطنه الأبدي في الأعالي، حيث النورانيون ينسِلون أديم أجسادهم ويغزلون غلالات أرواحهم الشفافة من عين النور. من النور إلى النار، ومن الروح إلى الثورة. ها هي سيرته تسرد حكايته للأولين واللاحقين. تحلمُ من أجل أحلامهم. وتقتات النار والنور معًا لكي تسِدُ رَمَق جوعى المستقبل المظلم الضرير. فكِشه الاخضرار والاحتراق، الجُرحُ والشفاء.

كان كشه رؤومًا  ولا يبخل على  حبيبته الشمس بما تبقى من وهج ذلك النهار الثوري القصير في ساحة الاعتصام

 

لتنعم بالسلام يا عبدًا للسلام.

نَم خالدًا، غريرًا يا روح العين ونورها

ارقد مِلء حنانك بين أحضان بنات قوس قزح

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عن وجوه السودان الأخرى

رِفقًا بـ"حمدوك": ساحر بلا عصا أو معجزات (1-4)

الكلمات المفتاحية

العاصمة-الخرطوم.jpg

من يفكر للسودان؟

يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…


فيلم وحوش لا وطن.jpg

وحوش السودان أيضًا بلا وطن

الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.


الدعم السريع.jpg

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟

منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…


محمد حمدان دقلو - حميدتي.jpg

النسج الخرافي بشأن اختفاء قائد الدعم السريع حميدتي

عند الشهر الثاني بالضبط من اندلاع الحرب السودانية "15 نيسان/أبريل 2023"، بدأ المخيال الشعبي في نسج الحكايات الغرائبية عن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert