رأي

السودان.. تاريخ السلطة ومستقبل الديمقراطية

23 أكتوبر 2019
sanar-1280x720.jpg
سنار عاصمة الفونج
أحمد الشريفكاتب ومترجم من السودان

ظلت النخب القبلية والدينية تتمتع بنفوذ سياسي كبير منذ تشكل السودان الحديث، مع سلطنة سنار والممالك الإسلامية الأخرى، مثل ملكة الفور والمسبعات. كانت السلطة حينها عشائرية يلعب رجال الدين دورًا مهمًا، في تكريس مشروعيتها وتبرير سلطتها مقابل امتيازات خاصة تتمثل في منحهم الأراضي الزراعية والرقيق، وإعفائهم من الإتاوات والضرائب ومنحهم مناصب القضاء والوظائف البيروقراطية القليلة التي تتطلب معرفة الكتابة، مثل جباية الضرائب ومسك الدفاتر كما وثق ذلك كل من جاي سبولدينغ في كتابه "عصر البطولة في سنار" والشيخ محمد بن عمر التونسي في كتابه "الرحلة إلى وداي" وكان التونسي نفسه من رجال الدين الذين استفادوا من امتيازات هذه الفئة.

طبقة رجال الدين (الفقرا) سرعان ما غيروا ولاءهم للفونج مع بوادر الغزو التركي

الجلابة والمليشيات
بعد غزو محمد علي باشا للسودان ودخول البلاد العهد الذي يعرف بالحكم التركي المصري، لم يطرأ على طبيعة سلطة وامتيازات القيادات القبلية والدينية تغيرات مهمة. صحيح أن الأتراك أقاموا دولة حديثة بالمعنى الأوروبي للدولة لأول مرة، لكن منذ الأيام الأولى سعوا لاستمالة الزعامات التقليدية لتسهيل سيطرتهم على البلاد.

كانت صراعات السلطة في العهد السناري محصورة بصراعات نبلاء الفونج أنفسهم، والمشكلات التي يتسبب فيها من أسماهم المؤرخون أمراء الحرب وجنودهم الذين كانت الطريقة المثلى لإبقائهم في نطاق السيطرة، هي توجيههم في أوقات السلم والفراغ لغزو ونهب إحدى القبائل البدوية أو القبائل الوثنية المسالمة في الجبال الجنوبية بمنطقة النيل الأزرق. يشير سبولدنغ إلى أن طبقة رجال الدين (الفقرا) سرعان ما غيروا ولاءهم للفونج مع بوادر الغزو التركي، فلم يستجيبوا لمناشدات الوزير محمد ود عدلان لمده بالجنود، ولم تمض إلا شهور قليلة حتى صاروا يجمعون الضرائب للغازي التركي تمامًا كما كانوا يجمعونها للفونج.

الشيء الوحيد الجدير بالملاحظة في هذه الفترة هو نمو سلطة تجار شمال ووسط السودان وشركائهم المصريين والشوام الذين شكلوا طبقة جديدة ذات نفوذ سياسي، منافسة للزعامات القبلية والدينية وهي طبقة "الجلابة" التي توسع نشاطها ومن ثم نفوذها بسرعة كبيرة، لدرجة تكوين كبار الجلابة لمليشيات مقاتلة خاصة بهم نافست جيش الحكومة نفسه. مثل مليشيا الزبير باشا صياد وتاجر الرقيق، الذي ضمت ميليشياته إقليم دارفور لسلطة الخرطوم سنة 1874. ثم لاحقًا صادمت الحكومة تلك الميليشيا وفككتها وأعدمت أبن قائدها، وفر أحد أبرز قادتها (رابح فضل الله) إلى تشاد المجاورة وأسس نفوذا هائلًا هناك. في آخر أيام التركية عرضت الحكومة على الزبير منصب حكمدار عام السودان مقابل إخماد ثورة المهدي[i]. وينبغي العلم أن علاقة الزبير وميليشياته بالحكومة بها الكثير من أوجه الشبه مع العلاقة بين حكومة البشير مع مليشيا الجنجويد ثم الدعم السريع التي ستجيء بعد قرن ونصف.

لم تحافظ السلطة التركية المصرية على مسافة متساوية من كل أقطاب السلطة التقليدية السودانية، حيث يذهب بعض المؤرخين مثل بيتر هولت[ii] إلى أنه من أسباب قيام الثورة المهدية الغبن الشديد الذي أحسه بعض الزعماء القبليين والدينيين، من النفوذ الكبير الذي تمتعت به بعض القبائل "الشايقية والكبابيش" وإحدى الطرق الصوفية "الختمية". كما أشار سلاطين باشا النمساوي الذي كان حاكمًا لإقليم دارفور حينها، للتوتر والتنافس الشديد بين الجلابة الدناقلة (قبيلة المهدي) والجلابة الجعليين (قبيلة الزبير ورابح). كانت الدعوة المهدية هي الإطار الذي جمع المتظلمين من رجال الدين والقبائل والجلابة، وقد وحدتهم دعوة محمد أحمد المهدي الذي كان هو نفسه رجل دين استفاد من توسع ومأسسة التعليم الديني في ذلك العهد، التي أشار إليها "النور حمد" في دراسته عن العقل الرعوي، حيث يمكن القول عن رجال المهدية الأوائل أنهم النخب المغبونة من السلطة، بينما تمترست النخب الدينية والقبلية والتجارية صاحبة الامتيازات خلف النظام القائم بقوة وكرست لشرعيته وقادت الحرب الإعلامية ضد محمد أحمد المهدي. ويمكن الرجوع لتفاصيل هذا الصراع في كتاب البروفسير عبد الله على إبراهيم " الصراع بين المهدي والعلماء".

 اقرأ/ي أيضًا: ثورة السودان.. الحلّ الجذري أمام الأبواب الموصدة!

جذور صراع الهامش والمركز
أنهت الدولة المهدية مشروع الدولة الحديثة الذي أسسه الحكم التركي المصري، وخلقت نظامًا هجينًا بين نموذج الحكم التقليدي السناري والدولة المركزية القابضة التركية. في هذا العهد كان قد تشكل معسكرين أساسيين يتنافسان حول السلطة هما "أولاد العرب"، وهم القبائل الرعوية من غرب السودان من أهل الخليفة التعايشي، و"أولاد البلد" وهم قبائل وسط وشمال السودان من أهل المهدي. وقد استطاع أولاد العرب الحفاظ على السلطة بأساليب القمع والترغيب دون أن ينتهي الانقسام حتى سقوط المهدية على يد جيش الغزو الإنجليزي المصري، وقد أدت الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية المتواصلة لدولة الخليفة، لتقلص شعبيتها بشكل متسارع بحيث لم يحتج البريطانيون لبذل كبير جهد لوضع حد لها، ولعل خير وصف لموت المهدية قبل موتها هو تجربة الشيخ بابكر بدري (من أولاد البلد) التي رواها في كتابه حياتي، حيث قارن بين الإيمان والاستعداد للموت في سبيل المهدية في حملة غزو مصر في بدايات عهد التعايشي، ثم الفرار بلا ندم من معركة "كرري" التي تلاها سقوط العاصمة أم درمان.

تسييس القبيلة وبروز الأفندية

حارب الإنجليز بصورة رسمية مؤسسة الدين الشعبي بالسودان "الطريقة الصوفية" في البداية باعتبارها الرحم الذي تخلقت فيه المهدية التي قتلت بطلهم تشارلس غوردن. اتجهت بدلًا عن ذلك لتأسيس مؤسسة دينية رسمية من علماء المذاهب حيث أسسوا مجلس العلماء في 1901، لكن فشلت هذه السياسة نسبة لافتقارها للتأثير في سكان السودان الذين عرفوا الدين مع الطرق الصوفية. تحولت سياسة البريطانيين بعد ذلك إلى تسييس القبيلة ونقلوا تجربتهم في نيجيريا إلى السودان بحذافيرها، فتحول زعماء القبائل إلى أصحاب سلطة تشريعية وتنفيذية حقيقية وذات تراتبية داخلية ابتداءً من شيخ القرية وحتى ناظر عموم القبيلة. وهو أمر غير مألوف للسودانيين الذي عرفوا القبيلة كحقيقة إثنية وثقافية، وليس سلطة سياسية وإدارية. أصبح زعماء القبائل يدينون بسلطتهم إلى الحكومة الاستعمارية وليس إلى إجماع أفراد القبيلة[iii].

تصادمت الحكومة الاستعمارية مع الأفندية عدة مرات وصادم هؤلاء طبقة رجال القبائل والزعماء الدينيين

كانت سياسة البريطانيين في السودان مثل سياستهم في الهند وكل مكان تقريبًا، قائمة على التحالف مع القيادات التقليدية دون إيلاء أي اهتمام للأقلية المثقفة التي ستظهر حتمًا مع الانتشار الضعيف المتدرج للتعليم الحديث. في منتصف ونهاية الفترة الاستعمارية أصبح للمتعلمين السودانيين قوام من نوع ما، وبدأوا يشكلون ثقلًا اجتماعيًا مهمًا للغاية، وصاروا مجموعة منفصلة عرفت باسم "الأفندية"، وتبلورت قوتهم في الجمعيات الأدبية ثم مؤتمر الخريجين، الذي خرجت منه لاحقًا كل فصائل الحركة السياسية. وطبقة الأفندية تشمل كل المتعلمين سواء كانوا من المدنيين أو العسكريين. تصادمت الحكومة الاستعمارية مع الأفندية عدة مرات وصادم هؤلاء طبقة رجال القبائل والزعماء الدينيين. وهو الصراع الذي امتد إلى ما بعد الاستقلال، بعد تمايز قسمي الأفندية المدني والعسكري وشكل تاريخ السودان المعاصر. ولا بد أن دراسة هذا الصراع والاستقطاب المتواصل داخل نادي النخبة السودانية، بأقطابه المختلفة مفتاحي للتنظير حول مستقبل التحول الديمقراطي الذي دشنته ثورة ديسمبر 2018. مع الأخذ في الاعتبار أن طبقة أمراء الحرب التي لعبت دورًا مهمًا في العهد السناري والتركي ثم تقلصت قوتها في المهدية واختفت تمامًا في العهد الاستعماري، عادت لتقتحم نادي النخبة من جديد في العهد الوطني بصور مختلفة أبرزها وصول قائد مليشيا الدعم السريع لمجلس السيادة، دون أن يكون ذلك عبر اتفاقية سلام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أي إعلام يريد السودان بعد ثورته؟

جدل الوصل والانقطاع في الثورة السودانية


[i] 

[ii] 

[iii]

 

 

الكلمات المفتاحية

العاصمة-الخرطوم.jpg

من يفكر للسودان؟

يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…


فيلم وحوش لا وطن.jpg

وحوش السودان أيضًا بلا وطن

الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.


الدعم السريع.jpg

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟

منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…


محمد حمدان دقلو - حميدتي.jpg

النسج الخرافي بشأن اختفاء قائد الدعم السريع حميدتي

عند الشهر الثاني بالضبط من اندلاع الحرب السودانية "15 نيسان/أبريل 2023"، بدأ المخيال الشعبي في نسج الحكايات الغرائبية عن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert