رأي

الزنق السوداني والمهرجان المصري.. الغناء الملعون

18 فبراير 2020
مادة-خاص سودان (1).png
أيمن ما وحسن الشاكوش (الترا سودان)
أحمد الشريفكاتب ومترجم من السودان

أصدرت نقابة المهن الموسيقية المصرية قرارًا بمنع أغاني المهرجانات معتبرة هذا الضرب من الغناء يهدد المجتمع والثقافة. أما في جنوب وادي النيل فقد حصلت الأغاني الموازية للمهرجان وهي أغاني الزنق والزار على مكانها المستحق كفن معترف به، ويستهلك بلا تحرج بواسطة النخبة الصاعدة، بعد الثورة.

استطاع الزنق أن يحجز لنفسه مكانة وسط الشباب، أولًا لأنه ضد توجهات السلطة المكروهة، ثانيًا لأن نظام البرابرة الغزاة عاجز تمامًا عن إنتاج فن يمكن اعتباره رسميًا

لم تقر فرنسا قانونًا رسميًا يرفع تجريم التجديف الديني إلا في الثمانينات، لكن المجتمع الفرنسي كان قد أقر "الحق بالتجديف" منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. تطبع الأمر اجتماعيًا أولًا، ثم جاء الإقرار الرسمي كطقس احتفالي رمزي، وتحصيل لما هو حاصل. بالمثل قبل الشعبان المصري والسوداني كلًا من المهرجان والزنق. لكن يمكن ببساطة للطبقة المسيطرة ثقافيًا أن تجرم ما أباحته إرادة الشعب ومرونة معاييره وواقعيته، يمكن في دولة تضاؤل نصيبها من الحرية مثل مصر أن تتحالف نقابة الموسيقيين مع السلطة العسكرية ضد تطور الموسيقى.

اقرأ/ي أيضًا: غناء "الراب" في السودان.. ألحان على إيقاع الثورة

في السودان حتى قبل الثورة، استطاع الزنق أن يحجز لنفسه مكانة وسط الشباب، أولًا لأنه ضد توجهات السلطة المكروهة، ثانيًا لأن نظام البرابرة الغزاة عاجز تمامًا عن إنتاج فن يمكن اعتباره رسميًا، كل ما أنتجوه كان أغاني جهادية مهووسة وعنصرية، أو إحياء وسوء توظيف لأغاني الحماسة التقليدية، وسبب مهم آخر هو أن أغاني الزنق حلوة، ومرحة وتتيح للسودانيين نافذة على الفرح، وسط الشقاء الجماعي، وأجواء الاكتئاب التي صنعها البرابرة لثلاثين عامًا من التجريف والإفقار المادي والثقافي.

في الثورة، كان من الطبيعي أن يكون الزنق، والراب والزار وكل الفنون المغضوب بعض عدة حرب الثوار، على البرابرة الغزاة. أن تقدح أغنية "الخميس عرمرم" زناد الهمم الثورية، أن تسكن نبوءات أغاني الزار، التي تؤديها الفنانة "مودة الحنينة" خواطرهم عندما يشن عليها القلق غارته الساحقة، أن تكون كلمات أغاني الراب في "سودان بدون كيزان" من شعارات الثورة ومنطلقاتها المبسطة "حسادة وسطحية..عواليق نخليها".

كان لأهل الفن والرياضة وللنساء والشباب الموصوف بـ"الضائع"، القدح المعلى في الثورة، لأنهم الأكثر استبعادًا داخل النظام، والأحوج للاطاحة به، وإقامة نظام جديد يمكن لهم العيش فيه، مثل كل العباد.

اقرأ/ي أيضًا: بعد 40 عامًا على رحيل "منى الخير".. "عيون المها" ما تزال تغازل وجدان الناس

في منتصف التسعينات حين كان "المشروع الحضاري الإسلاموي" في أوجه، كان مجرد الاستماع إلى فنان مثل "محمود عبد العزيز" يعتبر علامة حاسمة على قلة الأدب والصعلكة. والآن يأتي على الناس زمان طاسو وتباشي والعجب أستار، وزمان ستموت في العشرين، والحديث عن الأشجار، والكوميديا التي تضحك، والأغاني التي تطرب، والتمثيل الجدير باسمه. ويصعد جيل جديد من الفنانين، جيل مازن حامد، الذي هو النفي الكامل لكل ما أكدته ثلاثين عام الأسر الكيزاني البغيض، مع الشعراء والملحنين والموسيقيين والمصممين الذين يشاركونه نجموميته.

الفنان مازن حامد (مونت كارلو الدولية)

لم تقم وزارة الثقافة ولا الحكومة السودانية بأي جهد لتطوير الثقافة، فقط جاءت الحرية وحطم بروميثيوس الإبداع السوداني أغلاله. فقط أصبح بوسع الناس أن يختاروا الغناء الذي يعجبهم، لم يعد ثمة غناء رسمي وغناء خارج على القانون والأخلاق. لم تعد الدولة هي من يحدد ما الأخلاقي، كما تفعل الدولة المصرية بواسطة النقابة.

لا يعيش السودانيون الآن عصر حداثتهم ولا حتى عصر تنويرهم، لكنهم يعيشون العصر المؤسس لكل العصور الجميلة، عشية أعياد التاريخ؛ يعيشون عصر نهضتهم الإنسانية الخاص. لم يستعد السودانيون بعد حقهم في الحياة الكريمة الخالية من الحرمان، لكنهم استعادوا حقهم في الحلم والفرح، استعادو الإحساس بامتلاك المصير. ويذكرهم فن الزار والزنق بذلك في كل كل مناسبة، أصبحت الحفلات الغنائية لا تتم إلا بأغاني الثورة وشعاراتها وطموحاتها وإصرارها على النصر.

لا بد أن السلطة الثقافية قبل تألق خليل أفندي فرح، كانت ترى الغناء بالعود تجديفًا على فن "الطمبارة" الأصيل، الراقي..إلخ، لكن وضع الحرية الثقافية في زمن الخليل أتاح له أن يصعد بجديده، ويصعد معه جيل ذهبي كامل لم يتكرر بذات الطريقة قط في تاريخ السودان، إلا بعد عودة أجواء الفرح والحرية بعد ثورة كانون الأول/ديسمبر. في زمن البرابرة البائد كان يظهر فنان وحيد كل بضع سنين، صوت وحيد معزول. وردة واحد لا تصنع الربيع، الربيع الذي يتخلق الآن بأصوات وكلمات وألحان متزامنة ومتجاورة. بالنشأة المستأنفة لعصر خليل أفندي فرح الإنسي الحر، والذي كان أيضًا عهدًا ثوريًا تأسيسيًا، جرت خيانته والردة عليه لاحقًا.

هل يتاج للشعب المصري أن يعبر عن رأيه في أغاني المهرجان أو غيرها أو حتى في القرارات التي تمس وجوده بحرية؟ من أين تأتي نقابة المهن الموسيقية بهذا اليقين، يقين أنها تمثل أخلاق الشعب ورغبته؟ هذه هي مشكلة النظم القمعية. أنها تخلق مجتمعًا متخلفًا ثم تبرر وجودها بوجود التخلف، وبحماية التخلف. ليغطي النظام الاستبدادي على افتقاره للشرعية الديمقراطية يحتاج دائمًا أن يزايد على المحكومين بقيمهم. تقنع السلطة السياسية أو الثقافية مجتمعًا ما بأنه مجتمع قبلي أو طائفي أو متعصب ضد المرأة أو الأجانب وعليه أن يظل كذلك. هذا ضروري جدًا في أي نظام قمعي، وإلا كيف سيخرج الدكتاتور ليقول في خطبته الرنانة أن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان تتعارض مع قيمنا؟ قيمنا التي يحنطها ويكسبها طابع الخلود الجوهري.

 

تحرص السلطة الثقافية على حسم هذا التمرد، لا بد من استدامة التخلف. وفرض الحياة الجاهزة، والتصورات الجاهزة والذوق الجاهز، وابادة كل نزوع ذاتي في مهده

عبر إنتاج واستهلاك الفنون المغضوب عليها، تقول شعوب المنطقة إنها قادرة على العيش خارج شروط الطائفة والقبيلة، قادرة على تحمل المسؤولية وعلى التسامح مع الاختلافات. لذا تحرص السلطة الثقافية على حسم هذا التمرد، لا بد من استدامة التخلف، وفرض الحياة الجاهزة، والتصورات الجاهزة والذوق الجاهز، وإبادة كل نزوع ذاتي في مهده.

اليوم يمكنك أن تسمع أغاني الزنق في الإذاعة والتلفزيون الرسمي. حكاية جميلة كتبتها الحرية، تذكرنا بحكاية أبي خليل القباني، كما رواها نزار قباني في "الوضوء بماء العشق والياسمين":
"كان يحاول أن يقدم نًصًا من شكسبير

فيسألونه عن أخبار الزير..

يحاول أن يجد صوتًا نسائيًا واحدًا يغني معه

يا مال الشام يا شامي

فيخرطشون بواريدهم العثمانية

ويطلقون النار على كل شجرة ورد تحترف الغناء"

يموت القباني وتموت سلطة التحريم التي تشهر سيفها في وجه غناء المهرجان المصري، وكسرت الثورة السودانية سيفها الذي لطالما لوحت به في وجه أغنيات الزنق؛ يواصل نزار حكايته:
"بعد مائة عام

اعتذرت دمشق لأبي خليل القباني

وشيدت مسرحًا جميلًا باسمه

وصارت أغنية "يامال الشام، يا شامي"

نشيدًا رسميًا مقررًا

على كل مدارس الإناث في سورية".


اقرأ/ي أيضًا:

تجارب معاصرة.. "ميمز" على جدران المعارض!

الحقّ في الفوضى

الكلمات المفتاحية

العاصمة-الخرطوم.jpg

من يفكر للسودان؟

يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…


فيلم وحوش لا وطن.jpg

وحوش السودان أيضًا بلا وطن

الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.


الدعم السريع.jpg

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟

منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…


محمد حمدان دقلو - حميدتي.jpg

النسج الخرافي بشأن اختفاء قائد الدعم السريع حميدتي

عند الشهر الثاني بالضبط من اندلاع الحرب السودانية "15 نيسان/أبريل 2023"، بدأ المخيال الشعبي في نسج الحكايات الغرائبية عن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert