رأي

"اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب

6 أكتوبر 2019
عباس-فرح١.png
الشهيد عباس فرح
عامر صالح
عامر صالحصحفي من السودان

مشهد ارتقاء الشهيد عباس فرح في أحداث فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم، سيظل واحدًا من أكثر المشاهد ملحمية في تاريخ السودان الحديث. يعرض المقطع القصير- ولكن المعبر لأبعد حد- والمأخوذ في الساعات الأولى من صباح المجزرة؛ عباس فرح وهو ينزف مصابًا، يقاوم السقوط ويمشي مترنحًا ليتهاوى على المتاريس التي وضعها الثوار لحماية منطقة الاعتصام. كان مقطعًا صادمًا تلقفه الناس بجزع، ولكنه في نفس الوقت حمل من الإلهام ما يكفي لحياة أمة كاملة. ربما لم يكن الشهيد مدركًا بأن انحناءته الأخيرة تلك على "الترس" وسط المذبحة وهو بكل ذلك الهدوء مخليًا مكانه في الصفوف الأمامية للثوار الذين يتدافعون من كل صوب، للذود عن منطقة الاعتصام، ربما لم يكن الشهيد عباس ليعلم أن ذلك المشهد الأخير له في الحياة سيصنع تلك الصورة الرمزية الخالدة للإصرار على الحق والجسارة في مواجهة الموت. كان ملفتًا جدًا ومثيرًا للمشاعر المختلطة مشهده وهو في حركته الهادئة ورقدته الأخيرة، كان وهو يخطو ليتوسد المتاريس، كان يبدو مطمئنًا ومسالمًا كأنه بعظمة الفداء والتضحية أصبح أكبر من الردى فنال الخلود.

كان مشهد ارتقاء الشهيد عباس فرح في أحداث فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم مقطعًا صادمًا تلقفه الناس بجزع، ولكنه في نفس الوقت حمل من الإلهام ما يكفي لحياة أمة كاملة!

كل شيء في ذلك المشهد كان معدًا للخلود: قميص الشهيد عباس الأصفر الفاقع اللون وهو يتخضب بدمائه الزكية المتباينة مع كل شيء آخر في الخلفية، "الترس" العظيم الذي كان بطول انحناءة شهيد، الأرواح اليقظة التي تحدتها آلة الموت ولم تستطع كسرها، كان المشهد كله تكثيفًا لأحداث وشواهد ثورتنا؛ شهيد يرتقي وشاب آخر يحل مكانه، بينما يفزع البعض لإسعافه، ويد مجهولة تمتد بحنو تسند الجسد وتفتش عن مكان الجرح، وخلف ذلك كله مصور من نفس المعدن، يحمل الرسائل الأخيرة لثوار لم يمنعهم البطش الوحشي عن أداء مهامهم المباشرة بتجرد وقوة عظيمين.

الشهيد عباس فرح

ولربما كانت تلك هي الرمزية الأعتى للمشهد، روح العمل تلك أو تجويد الواجب المباشر كما يسميها الأستاذ الشهيد "محمود محمد طه" والذي هو أيضًا وقف وقفة مشابهة حينما هم بقتله سدنة مشابهون فصعد إلى حبل مشنقته بثبات دون وجل.

جميع من كانوا في المشهد حول الشهيد عباس فرح ظهروا منخرطين في عملهم بهمة ملهمة، لم يوقف المصور عن أداء مهمته سقوط الشهيد، تراجَع عباس لترسه فحل مكانه آخرون، وكان مرقده الأخير في مكان واجبه على الترس، ليخلد للأبد علَمَا من أعلام الملحمة.

سقوط عباس على الترس لم يكن مصادفة، بل تأكيد لهتافات الأشاوس في اعتصام القيادة (الترس ده ما بنشال، الترس وراه ثوار) فهوى عليه والتحم به -صار جزءًا منه، ليؤكد أن المتاريس لم تكن فقط قطع الحديد والحجارة، وإنما هي من لحم ودم الثوار الذين يقفون عليها بأجسادهم النحيلة، التي يحمون بها ثورة حدثت فيها كل الرمزيات الشاعرية الممكنة والمستحيلة، كأنها قصيدة ملحمية خطها السودانيون بالدم والدموع في طريقهم للحلم الموعود.

والحلم هو أن تظل تلك الروح حية، وأن يظل الترس صاحيًا متأهبًا لحماية المكاسب التي ضحى من أجلها ثوار ديسمبر؛ إنها قصيدة عنوانها المسير الطويل في طريق الثورة إلى نهاياته بجد وبلا كلل، يدًا بيد كل يؤدي واجبه، مهتدين بالشهداء في وقفاتهم الخالدة، التي ألهمت وستظل تلهم الملايين من السودانيين الطامحين للانعتاق والحرية.

اقرأ/ي أيضًا: في إنعام النظر إلى وجه الثورة

ربما يرى البعض في المشهد حدثًا كارثيًا وحزينًا -وهو كذلك بالفعل- ولكنه يحوي أيضًا دروسًا في البسالة والصمود، فهو يعلمنا أن القضية التي يتشبث بها أبناؤها، مهما كان حجم التحديات وغشامة الأعداء؛ ستظل حية إلى الأبد، وأن الثورة باقية ما بقي رفاق عباس، يقوم كل منهم بدوره ويحل مكان الثائر إذا سقط؛ جمهرة. وهي دروس ملهمة يجب أن يحملها السودانيون معهم في فترتهم الانتقالية، التي ما يزالون يمسكونها بأيد مرتعشة وَجِلين أن تضيع الفرصة السانحة لبناء سودان متعدد وديمقراطي، لكن وقفة الشهداء يجب أن تشد من أزرنا في مواجهة تحديات الطريق، ف"الترس" يخبرنا أن الهزيمة تكمن في تخلينا عن عبء العمل الثقيل، فهناك على المتاريس وقف عباس ورفاقه بكل همة وتجرد، ليس من أجل الحفاظ على قطعة من الجغرافيا، وإنما دفاعًا عن الحلم المتحقق بأرض الاعتصام. وفي واقع ما بعد الثورة، ذلك بالضبط ما يجب علينا فعله، أن نكون الترس أمام الهجمات الغاشمة، التي تطمح لتجريدنا من انتصاراتنا وتفتيت وحدتنا. وفي "الترس" مثل متاريس القيادة تمامًا، يلزم أن يجوِّد كل واحد منا واجبه المباشر، لا بالتشاؤم وبث روح الهزيمة والإحباط، وإنما بالعمل بجدية ومسؤولية كل من موقعه، من المصانع والصوامع والمستشفيات، من النقابات والجمعيات ولجان المقاومة، وليكن أي واحد منا ثورة وحده، يستمد قوته من ثورة الشعب التي تستند إلى تضحيات عظيمة وانتصارات كبيرة وبسالة منقطعة النظير، أما المواقف الكسولة والأصوات المخذلة والانتهازية؛ فلا مكان لها في سودان اليوم بعد كل تلك التضحيات والبسالات، كما لم يكن لها مكان بين عباس ورفاقه داخل اعتصام القيادة العامة المجيد.

السودان كله هو اعتصام القيادة العامة وكل ثائر هو الشهيد "عباس"!

إن أخلاق الترس وأرض الاعتصام هي أخلاق ثورتنا، حيث يتم العمل بالمبادرة الفردية، ويؤدي الواجب من يقدر عليه، ويقوِّم الناس بعضهم البعض بروح رفاقية عظيمة، في جو يسوده التجرد والإخاء. ويجب أن نحافظ على هذا الإيمان الذي أعاده إلينا اعتصام القيادة بين بعضنا البعض، وأن نتقدم بالعمل الجماعي والمشاركة الفاعلة لا المواقف السلبية والنظرة المتشائمة، فبعد ثلاثين عامًا هي عمر نظام البشير الشمولي الفاسد الذي نخر في عظم البلاد، نحن نعرف مسبقًا حجم تحديات الفترة الانتقالية وصعوباتها، ولكن يجب أن لا نسمح لتجربتنا المريرة مع الإنقاذ وسدنتها، أن تقتل فينا الحلم وتحرمنا من شاعرية الإيمان والأمل في إمكانية تحقيقه سويًا، وها نحن لأول مرة منذ عقود نستطيع أن نفعل شيئًا حيال كل ذلك الخراب، فلنبدأ العمل إذًا ولنترك خلفنا الروح الثقيلة السامة التي خلفها فينا النظام البائد، فالسودان كله هو اعتصام القيادة العامة وكل ثائر هو الشهيد "عباس".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

السودانيون وعبء الحرية الثقيل

الولايات السودانية.. سقط النظام وبقيت أزماته

 

الكلمات المفتاحية

العاصمة-الخرطوم.jpg

من يفكر للسودان؟

يعتبر البحث العلمي من أهم الأنشطة التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة، وتحقيق التطور والنهضة، وبناء المستقبل الأكمل. ولا يمكن قراءة تقدم الأمم ونهضتها الحضارية بعيدًا عن رعايتها واهتمامها بالبحث العلمي وتطبيقاته. ومن هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته وأدواته، وعلى رأسها الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، سواء الحكومية منها…


فيلم وحوش لا وطن.jpg

وحوش السودان أيضًا بلا وطن

الفيلم السينمائي "وحوش بلا وطن" يعد من الأفلام النادرة والناجحة التي تناولت تأثيرات الحروب المأساوية على الأطفال. وبالطبع تدور أحداث الفيلم في قارة إفريقيا، القارة التي تشهد أكبر نسبة من الحروب والنزاعات المميتة التي تستخدم خلالها أجساد الأطفال والنساء أداة وساحة للحرب والموت والتشويه والإفناء.


الدعم السريع.jpg

ماذا تريد قوات الدعم السريع من السودانيين؟

منذ أول طلقة في حرب 15 نيسان/أبريل في السودان، تتناقض خطابات قوات الدعم السريع وأفعالها، حتى ليخال المرء أن هذا الأمر من قبيل الهزء والسخرية. فبينما تقدِّم الآلة الإعلامية الجبارة لهم سردية الحرب على أنها حرب من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتستهدف انتزاع السُلطة من الإسلاميين وفلول النظام البائد ومنحها للشعب والقوى السياسية ليكون الحكم مدنيًا ديمقراطيًا، كانت قواتهم تحتل المنازل في الخرطوم،…


محمد حمدان دقلو - حميدتي.jpg

النسج الخرافي بشأن اختفاء قائد الدعم السريع حميدتي

عند الشهر الثاني بالضبط من اندلاع الحرب السودانية "15 نيسان/أبريل 2023"، بدأ المخيال الشعبي في نسج الحكايات الغرائبية عن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

قاعة الصداقة.jpeg
أخبار

مصادر: الدعم السريع أحرقت قاعة الصداقة للتغطية على انسحاب منسوبيها

قالت مصادر إن قوات الدعم السريع أقدمت مساء اليوم الأربعاء 12 شباط/فبراير 2025 على تخريب وإحراق مبنى قاعة الصداقة في وسط مدينة الخرطوم، إثر معارك عنيفة دارت في المنطقة انسحبت على إثرها قوات الدعم بينما تقدم الجيش.

عبدالرحيم دقلو 4.jpg
أخبار

نجاة عبد الرحيم دقلو من غارة جوية في زالنجي

نجا قائد ثاني قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، من محاولة اغتيال بعد استهداف طيران الجيش السوداني للمنازل التي يقيم فيها بولاية وسط دارفور، زالنجي، يوم الإثنين 11 شباط/ فبراير 2025.


علي قاقرين.jpg
منوعات

قاقرين.. قصة هتاف أوقف مسيرة الكرة السودانية وحل الأندية

تقول الحكاية إن مهاجم نادي الهلال العاصمي والفريق القومي السوداني، علي قاقرين كان السبب في إلغاء نظام الكرة السوداني في العام 1976 وإبداله بما عرف تاريخيًا بـ"الرياضة الجماهيرية"، وهي المرحلة المتهمة بإقعاد الكرة السودانية وإضعافها لسنوات طويلة.

سوق في ولاية النيل الأبيض.png
أخبار

قوات الدعم السريع تجتاح قرى شمال النيل الأبيض وتمارس انتهاكات واسعة

أفاد التحالف الديمقراطي للمحامين، بتعرض سكان وحدة نعيمة الإدارية وما جاورها شمال ولاية النيل الأبيض – حوالى 22 قرية – إلى اجتياح بواسطة قوات الدعم السريع المنسحبة من ولاية الجزيرة على متن المركبات العسكرية المدججة بالأسلحة الفتاكة.

advert